العلماء ويمكنك مراجعة لسان الميزان لابن حجر. إنّ الطريقة التي يريد الأخ حارث أن ينتهجها الناس عند البحث ستفضي لترك كل تراثنا الفقهي والأدبي والتاريخي وهذا غير مقبول ولم يقُل به أحدٌ من العلماء، بل على العكس لقد كانوا يروون البلاغات والمراسيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما بالك بمن هو دونه؟
انظر إلى قول الشيخ ابن القيّم في "إعلام الوقّعين" عند الكلام على رسالة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في القضاء. والتي لا سند لها! قال: (وشهرتها تُغني عن سندها). انتهى
وانظر إلى قول حافظ المغرب ابن عبد البر القرطبي عند كلامه على حديث معاذ في فضل العلم. قال: (وشُهرته تغني عن سنده).انتهى
وأمثال هذا يكثر وإنّك إذا رجعتَ إلى كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي أو البداية والنهاية لابن كثير ستجدهم ينهجون هذا النهج.
نعم إذا كانت المسألة تتعلّق بالحكم على مسلم بالكفر أو الزندقة ولم تكن مشهورة ومستفيضة فعندها ينبغي علينا التحرّي وتوخّي ثبوت المسألة.
وعلى كلّ حال فإنّ القصّة التي رواها القاضي عياض عن مالك إنّما يرويها عن عبد الله بن يوسف التّنيسي وهكذا هي في الطبعة المغربيّة وقد استشهد بها الشيخ عبد القادر أرناؤوط في تقديمه لكتاب "الرّهص والوقص لمستحل الرقص " صـ7. وكذلك الشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة في حاشيته على كتاب "رسالة المسترشدين للمحاسبي "الطبعة الخامسة صـ67 كلاهما رواها عن التنيسي. وأمّا ما وجده الأخ حارث في طبعة دار الحياة، من أن الراوي هو المسيّبي فهذا تصحيفٌ ولاشك. لعدّة أمور:
أولاً ـ إنّ هذه الطبعة والطبعات المصوّرة عليها مليئة بالأخطاء والسقط والتحريف والتصحيف.
ثانياً ـ إنّ المسيّبي وهو محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن المسيب المسيبي، مدني سكن بغداد؛ روى عن أبيه عن نافع القراءآت، ويروي الحديث عن يزيد بن هارون وابن عيينة وغيرهما؛ وروى عنه أبو زرعة الرازي ومسلم بن الحجاج وغيرهما، مات ربيع الأول 236هـ ببغداد. ليس من أصحاب مالك ولا من الرواة عنه.
ثالثاً ـ إنّ الأئمّة المالكيّة المحققين يروون هذه القصّة عن التنيسي عن مالك كما في فتوى الإمام الشاطبي، سُئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي (من أئمة المالكية والمرجع في علم الأصول) عن حال طائفة ينتمون إلى التّصوّف والفقر، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد ثمّ ينتقلون بعد ذلك إلى الغناء والضرب بالأكفّ والشطح هكذا إلى آخر الليل ويأكلون في أثناء ذلك طعاماً يَعُدُّه لهم صاحبُ المنزل، ويحضر معهم بعض الفقهاء، فإذا تُكُلِّمَ معهم في أفعالهم تلك يقولون: لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرّمة شرعاً لما حضرها الفقهاء.
فأجابَ ما نصّه: الحمد لله كما يجب لجلاله، والصلاة على محمّدٍ وآله .......................... وحَكَى عياض عن التنيسي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين يا أبا عبد الله عندنا قوم يُقال لهم الصوفيّة، يأكلون كثيراً، ثمّ يأخذون في القصائد، ثمّ يقومون فيرقصون؟ فقال مالك: أَصبيانٌ هم؟ قال: لا، قال: أمجانينُ هم؟ قال: لا، هم قومٌ مشايخ، وغيرُ ذلك عقلاء، فقال مالك: ما سمعتُ أنّ أحداً من أهل الإسلام يفعلُ هذا!! ...... انتهى
المعيار للونشريسي ج11صـ41
ولا ينبغي أن يُقال إنّ الشاطبي توفي سنة 790 وعياض توفي سنة 544 لأنّ كتاب عياض معروف، إذاً فرواية الشاطبي عن عياض ليس فيها إشكال. وأمّا رواية عياض عن التنيسي فكما قلتُ آنفاً إنما هي على طريق الرواية لخبر مشهور ومستفيض في المذهب.
وبالمناسبة إنّ الأخ حارث اعتمد على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في نفي حدوث هذا الرقص الصوفي في القرون الثلاثة الأولى. والذي أفهمه من كلام ابن تيميّة أنّه يقصد قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا يقصد المئة الأولى والثانية والثالثة! وكما تعلم فإنّ الإمام مالك هو من تابع التابعين وقد ولدَ سنة 93هـ. فتنبّه.
¥