والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له؛ وبهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل؛ مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية؛ فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم؛ ولذلك يرون هذا ساقطا عمن حصل المقصود كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم.
والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة.
وما يذكرون من اقتران المعلول بعلته فإذا أريد بالعلة ما يكون مبدعا للمعلول فهذا باطل بصريح العقل. ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل.
ولما كان هذا مستقرا في الفطر كان نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء موجبا لأن يكون كل ما سواه محدثا مسبوقا بالعدم وإن قدر دوام الخالقية لمخلوق بعد مخلوق فهذا لا ينافي أن يكون خالقا لكل شيء وما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه؛ بل ذلك أعظم في الكمال والجود والإفضال.
وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك. كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل في شيء بل هو من باب المشروط والشرط قد يقارن المشروط وأما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين وإن لم يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد شيء فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة.
وذلك لا ينافي حدوث كل جزء من أجزائها؛ بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه.
وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو وأتباعه فإنهم وإن قالوا: بقدم العالم فهم لم يثبتو له مبدعا ولا علة فاعلية؛ بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها لأن حركة الفلك إرادية.
وهذا القول وهو أن الأول ليس مبدعا للعالم وإنما هو علة غائية للتشبه به وإن كان في غاية الجهل والكفر فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلول لا يكون قديما بقدم علته كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه؛ ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة أرسطو وسائر العقلاء في ذلك وبينوا أن ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء وكان قصده أن يركب مذهبا من مذاهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب.
مع كونه أزليا قديما بقدمه. واتبعه على إمكان ذلك أتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم.
وزعم الرازي فيما ذكره في محصله أن القول بكون المفعول المعلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة المتقدمون الذين نقلت إلينا أقوالهم كأرسطو وأمثاله.
إنما قاله ابن سينا وأمثاله. والمتكلمون إذ قالوا: بقدم ما يقوم بالقديم من الصفات ونحوها فلا يقولون إنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة؛ بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب واجبا قديما إلا بصفاته اللازمة له كما قد بسط في موضعه.
ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله. وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبا سواء قيل إنه واجب بنفسه أو بغيره.
ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديما واجبا بغيره أزليا أبديا - كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في " الإمكان " -
من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه كما بسط في موضعه.
فإن هذا ليس موضع تقرير هذا؛ ولكن نبهنا به على أن برهانهم القياسي لا يفيد أمورا كلية واجبة البقاء في الممكنات.
وأما واجب الوجود - تبارك وتعالى - فالقياس لا يدل على ما يختص به وإنما يدل على أمر مشترك كلي بينه وبين غيره.
إذ كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمورا كلية مشتركة وتلك لا تختص بواجب الوجود - رب العالمين سبحانه وتعالى - فلم يعرفوا ببرهانهم شيئا من الأمور التي يجب دوامها لا من الواجب ولا من الممكنات.
وإذا كانت النفس إنما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه. لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم؛ فضلا عن أن يقال: إن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم؛ ولهذا كانت طريقة الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته.
فابن سينا لما تميز عن أولئك؛ بمزيد علم وعقل؛ سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك.
وصار سالكوا هذه الطريق وإن كانوا أعلم من سلفهم وأكمل فهم أضل من اليهود والنصارى وأجهل إذ كان أولئك حصل لهم من الإيمان بواجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال وهم من أتباع فرعون وأمثاله ولهذا تجدهم لموسى ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين أو معادين.
قال الله تعالى: ? الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ? وقال تعالى: ? كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ? وقال: ? فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن ? أهـ مجموع فتاوى ابن تيمية - ج 9
¥