المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [(آل عمران: 164). فما مات
صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على
المحجة البيضاء، ثم قام أصحابه بتبليغ رسالته لمن بعدهم فكانوا أعلم الناس بنبيهم
صلى الله عليه وسلم ثم حمل عنهم العلم مَنْ بعدهم، وهكذا كل جيل يحمل العلم عن
سلفه، وفي هذا كله لا يزال العلم ينقص، ويكثر الجهل كلما امتد الزمان؛ وذلك
مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقبض العلم ويظهر الجهل
والفتن» [22].
وقد حصل بالفعل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتشر «الجهل
بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب
الشرك، فقلّ نصيبهم جداً من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم
من العلم ما يُبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا
بقدر ما معهم من العلم» [23] بل وصل الأمر عند بعض دهماء الأمة إلى جعل
المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ ولذا يقول ابن القيم - رحمه الله -: «قد غلب
الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً،
والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه
الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء،
ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك
والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين» [24].
وقد بين ابن الجوزي - رحمه الله - أن «الباب الأعظم الذي يدخل منه
إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا
يدخل إلا مسارقة» [25]. وقال القرافي المالكي « .. أصل كل فساد في الدنيا
والآخرة إنما هو الجهل؛ فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت، كما أن أصل كل
خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم؛ فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله - تعالى -
هو المعين على الخير كله» [26].
وهذا الجهل الذي وقعت به الأمة ناتج والله أعلم عن أمرين:
الأول: الإعراض عن الكتاب، والسنة تعلماً وتعليماً، وتدبراً وتفهماً لما
فيهما:
فمن أعرض عن السنة اشتغل بالبدعة، «وأما من أصغى إلى كلام الله بقلبه،
وتدبره وتفهمه، أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة،
وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله
عليه وسلم بكليته، وحدّث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن
البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس
وتخيلاتها، ومن بَعُدَ عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من
غمر قلبه بمحبة الله - تعالى - وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه،
أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور،
وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أي شيء استحسنه ملكه واستعبده.
فالْمُعْرِض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع
ضال، شاء أم أبى .. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم» [27].
الثاني: أنهم حملوا نصوص الكتاب والسنة على أناس قد مضوا، وأما هم
فغير مخاطبين بهما؛ وهذا ما يتصوره «أكثر الناس، [حيث] لا يشعرون بدخول
الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا
وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك
قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله
لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: «إنما تُنقَض
عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية»، وهذا لأنه
إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره، ودعا إليه
وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر
¥