أن استطراد العالم بذكر حكم لمسألة تعلقت بها مباحث مسألة جرت معها في سياق واحد لايعني أن هذا السياق هو " مجموع كلام " يجعل المسألتين مسألة واحدة!
فإن المخالفين الذين يرد عليهم ابن حزم رحمه الله استدلالهم بإقامة الحدود على من لحق بالكفار قد بنوا هذا الاستدلال من قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) على مقدمتين:
الأولى: أن من تولى الكفار فهو كافر منهم.
الثانية: أن كل من كفر وكان تحت حكم الكفار فهو مثلهم من كل وجه.
فرد عليهم ابن حزم رحمهم الله بأن المقدمة الصغرى موجبة كلية والكبرى موجبة جزئية فلا تكون النتيجة إلا موجبة جزئية.
فهو قد سلم بكفر كل من تولي الكفار وهذا كمايقول: " حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين".
إلا أنه لايسلم بأن كل من كفر وكان تحت حكم الكفار فهو كالكفار من كل وجه، فليس كل من كفر وكان تحت الكفار فإن الحد يقام عليه.
الثالث:
أن طرد هذه الطريقة في استخراج علة كلام ابن حزم يلزم منه نقض أصل المخالف في التكفير بالإعانة المطلقة، ووجه ذلك أن الآية نفسها قد سيقت بعد آيات الأمر بالحكم بما أنزل الله والنهي عن ترك حكم الله في القرآن كماترك اليهود والنصارى التوراة والإنجيل، ف: " مجموع الآيات " يدل على أن من تولى اليهود والنصارى فإنه لايكفر كفرا أكبر وإن تولاهم محبا لدينهم حتى يكون تحت حكم الكفار.
ومقتضى هذا التقرير أن الدخول تحت حكم الكفار" علة "! يدور معها تكفير من أعان الكفار- وإن أحب دينهم- وجودا وعدما، وهذا مالايلتزمه المخالف، فعلم أن هذا مسلك غير رشيد فهم كلام الأئمة.
==========================
و الأمر الثاني وهو أن تفسير التولي بمطلق الاعانة حادث " لا عرفه الصحابة في عهد التشريع , ولا عرفه ابن حزم , ولا دلت عليه اللغة "منتقض من ثلاثة وجوه:
الأول:
أن هذا القول مجازفة عجيبة لاتصدر إلا عن من يحفظ إجماعا للصحابة على تفسير التولي بالإعانة المقترنة بالمحبة لدين الكفار ومثل هذا الشرط عن أهل اللغة ومثله عن ابن حزم، وهذا مالا يوجد عند المخالف في هذه المسألة.
الثاني:
أن تفسير التولي بالإعانة كاف في إثبات أن مطلق الاعانة كفر عند من فسره بهذا، وعلى من زاد شرطا في كلام المفسِّر أن يبين مصدر هذه الزيادة من كلامه وإلا كان مفتريا عليه، وقد أطبق المفسرون على تفسير التولي في هذه الآية بالنصرة والإعانة ولم ينقل عن أحد منهم خلاف في تفسير هذا التولي بهذا المعنى إلا خلاف تنوع وقفت عليه عند مفسرين فقط:
أحدهما ابن الجوزي في " زاد المسير " والآخر الآلوسي في " روح المعاني "، وكلاهما لم يعرض لتفسير كلمة التولي في الآية وإنما عرض لحكم مجمل تدل عليه الآية لايعارض تفسير التولي بماذكر، وسيأتي الجواب عن وجه كلام ابن الجوزي، وبيان مبالغة الأخ الكريم في جعل ابن الجوزي هو " المفسرين " الذين خالفوا ابن حزم في تفسير الآية، وتأكيده لذلك بقوله: " أقتصر "!
الثالث:
أن عمر رضي الله عنه – وهو صحابي بدري جليل! – قد كفر حاطبا رضي الله عنه بمطلق الاعانة ووصفه بالنفاق مريدا به الكفر الأكبر بدليل أن النفاق العملي لاقتل فيه وهو قد طلب قتل حاطب دون استفصال عن قصده، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم التكفير بمطلق الاعانة وإنما انكر عليه: " تحقيق هذا المناط " في حاطب رضي الله عنه وأنه لم يعن الكفار وإنما والاهم بإظهار مايدل على محبتهم وهي كبيرة قد غفر الله لأهل بدر أمثالها.
وهذا وإن لم يكن تفسيرا للتولي بمطلق الاعانة إلا أنه في " معنى " هذا التفسير.
واما أهل اللغة رحمهم الله فلا أطيل عليك بنقل اقوالهم في تفسير معنى الفعل (تولى) إذا تعدى بنفسه -فيما وقفت عليه -من كتبهم مماهو ليس بين يدي الآن.
إلا أنني أنقل لك نصا واحدا من لسان العرب لابن منظور (15/ 409) يبين مدى ظهور دلالة التولي في هذه الآية على الاعانة حتى صارت تورد في كتب اللغة للدلالة على أن التولي يطلق ويراد به الاعانة!
فقد قال في الموضع السابق بعد أن ذكر أن من معاني الولي الناصر وأورد قوله تعالى: (أن تولوهم):
" قال ابو منصور: جعل التولي ههنا بمعنى النصر من الولي وهو الناصر "
ثم قال ابن منظور في (15/ 415):
" (ومن يتولهم منكم ... ) يتبعهم وينصرهم ".!
¥