ثانيا: لما احتججتُ على أخينا بأن التجسس إعانة لم يكفِّر بها العلماء , قال: إن التجسس دلالة , وليس كل دلالة إعانة , واحتج على هذا بأن أهل العلم رحمهم الله تعالى يفرقون بين معنى (الدلالة) ومعنى (الاعانة) في أبواب متفرقة من الفقه، كجزاء الصيد في كتاب الحج وباب المشاركة في القتل في كتاب الجنايات وغيرها. وزعم أنه سينقل من كلام الشافعي رحمه الله وغيره مايبين الفرق بين (الاعانة) وبين (الدلالة) ومافي معناها كالاخبار.
ثم ذكر مسألة الدلالة في قتل الصيد.
فنقل عن مالك والشافعي في المحرم إذا دل الحلال على الصيد فقتله أنه لا شيء على الدال؛ لأنه يضمن بالجناية ولا يضمن بالدلالة , كالآدمي.
قلت: فلنقف مع هذا الاستدلال وقفات:
1 – ذهب الإمام أحمد إلى أن الصيد يضمن بالدلالة , وأن حكمها وحكم الإعانة واحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «شرح العمدة» (2/ 182 – 184) المناسك: «وكما يحرم قتل الصيد تحرم عليه الإعانة عليه بدلالة أو إشارة أو إعارة آلة لصيده أو لذبحه ... ».
واحتج بحديث أبي قتادة , وفيه: «هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا. قال: فكلوا مما بقي من لحمها».
ثم قال: «فقد امتنع القوم من دلالته بكلام أو إشارة , ومن مناولته سوطه أو رمحه , وسموا ذلك إعانة , وقالوا: لا نعينك عليه بشيء؛ إنا محرمون. وما ذاك إلا لأنه قد استقر عندهم أن المحرم لا يعين على قتل الصيد بشيء».
وقال ابن قدامة: «فإن أعار قاتل الصيد سلاحا فقتله به فهو كما لو دله عليه , سواء كان المستعار مما لا يتم قتله إلا به أو أعاره شيئا هو مستغن عنه مثل أن يعيره رمحا ومعه رمح , وكذلك لو أعانه عليه بمناولته سوطه أو رمحه أو أمره باصطياده».
فهل أحمد ليس هو من أهل العلم؟! لأن أخانا قال: «فأهل العلم رحمهم الله تعالى يفرقون بين معنى (الدلالة) ومعنى (الاعانة) في أبواب متفرقة من الفقه، كجزاء الصيد في كتاب الحج ... » , والإمام أحمد لم يفرق بين الإعانة والدلالة , بل الدلالة عنده من صور الإعانة ,كما رأيت!!
2 – ذهب الشافعي إلى أن الصيد لا يُضمن بالدلالة.
ولكن السؤال المهم هو: لم ذهب إلى ذلك؟
هل لأن الدلالة عنده ليست كالإعانة , كما فهمه وأوهمه أخونا الفاضل وبنى عليه هذا البناء؟
لننظر ما حكم الإعانة عنده , وهل تختلف عن الدلالة.
قال النووي في «المجموع» (7/ 316): «ولو أعان المحرم حلالا أو محرما في قتل صيد بإعارة آلته أو أمره بإتلافه أو نحو ذلك , فأتلفه , فلا ضمان على المعين».
فالشافعي لم يمنع التضمين بالدلالة لأن حكمها يختلف عن حكم الإعانة عنده , بل لأن الضمان عنده على من باشر الصيد , ولذا فلو أعان الصائدَ أحدٌ بإعارته آلته لم يكن على المعين ضمان , كما قال النووي , مع أن إعارة آلة القتل إعانة وليست دلالة.
فتبين بهذا أن الشافعي لا يفرق في هذه المسألة بين ما توجبه الدلالة والإعانة. وإنما أناط الضمان بأمر آخر.
وقد قال الأخ وفقه الله: «وسأنقل لك الآن من كلام الشافعي رحمه الله وغيره مايبين الفرق بين (الاعانة) وبين (الدلالة) ومافي معناها كالاخبار». فأين هذا البيان؟!!
3 – وأما قول الأخ الكريم: ((ثم قال (أي ابن قدامة): " ولو كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة والإشارة، فلاشئ على الدال والمشير، لأن ذلك لم يكن سببا في تلفه، ولأن هذه ليست دلالة على الحقيقة " فتأمل أخي الفاضل كيف أن هناك ماصورته دلالة وهوليس بدلالة على الحقيقة فلاتتعلق به أحكام الدلالة)).
فأقول لك أخي الكريم: هذا لا نزاع فيه , ولا ينبغي أن يكون , إلا إذا أردت أن تجعل دلالة الكفار على عورات المسلمين وإفشاء خططهم كدلالة من رأى الصيد أمامه فهو لا يحتاج إلى دلالة وإشارة , وأن ما يفعله الجاسوس لهم ليس دلالة في الحقيقة , ولا سببا في الضرر , لأن المدلول عليه ظاهر مكشوف لا يحتاج إلى دلالة!!
4 – وتقول أخي المحب: «ولولا الحال التي ذكرت لك من قبل وقلة الوقت والمراجع بين يدي لبسطت لك الجواب هنا على ما تحب».
فإذا كان ضيق الوقت وقلة المراجع سيحملك على مثل هذا الذي صنعتَ في فهم كلام العلماء هنا , فتريث حتى تجد الوقت وكثرة المراجع , لعل ذلك يمتعنا بجواب مبسوط على ما نحب.
¥