المتشعبة، ولا يلتبس عليه بالحق فيركن إليه ظاناً أنه الحق الذي يبحث عنه ويسعى
إليه، سواء أكان هذا الحق الذي يبحث عنه خبراً يريد أن يتبين صحته أو أن يعلم
مضمونه، أم أطروحة علمية يريد أن يعرف دلائل صحتها أو بطلانها) [ص60
من كتابه].
أما أنا فقد قرأت هذا التعريف عدة مرات متهماً عقلي بعدم القدرة على فهمه،
لعل الإعادة تفتح لي ما انغلق، وتكشف ما استتر، ولكنني أخيراً سلمت بأن هذا
التعريف أشبه ما يكون بالشعر الحر الذي لا تستسيغه أذواق وعقول الكثير من
القراء؛ إما لفقر وتخلف في مقدرتهم الثقافية أو لفراغه وخُلوه من أي معنى، وكل
من الرأيين له جمهوره وقائلون به.
إن من صفات التعريف أن يصاغ بعبارة جامعة مانعة محددة حتى يتمكن
القارئ من الفهم، وخاصة في القضايا العلمية، لكن البوطي لا يأبه - كما قلنا -
بما تعارف الناس عليه، ويحب أن يأتي بما لم يأتِ به الأوائل! كيف لا؛ وهو
أديب فنان يطمح - وهو في قمة تسنُّمه مهمة البحث العلمي - أن يستخدم العبارات
المجنحة التي تلفت إليه الأنظار.
وها نحن نبدأ بتحليل تعريفه للمنهج لعلنا نظفر بما عجزنا عنه أثناء القراءة.
يقول: (إننا نعني بكلمة (المنهج) المعنى الذي يريده كل أولئك
الذين يستعملون هذا المصطلح في نطاق دراساتهم وبحوثهم العلمية). اقرأ هذه
العبارة ورددها مرة ومرة ومرة، هل تفهم منها تعريفاً، وهل تزيدك علماً بشيء؟
طبعاً لا! فمَن هم أولئك الذين يستعملون هذا المصطلح؟ من أي ملة هم؟. وأي
دراسات وأي بحوث؟، لعل التوضيح يأتينا بعد كلمة (نعني)! (نعني بها الطريقة
(طريقة ماذا؟) التي تضمن للباحث أن يصل إلى الحق الذي يبتغيه). كل باحث
يعتقد أن ما يقوله ويصل إليه هو الحق، فهل هذا هو الحق في المنهج الإسلامي؟
وكثير من بغاة الباطل يطلقون على مبتغاهم اسم الحق!
وقبل أن نخرج من هذه الدوامة في تعريف المنهج، يدرك البوطي بكياسته
وذوقه الدقيق جداً أننا بحاجة إلى تحديد كلمة الحق، فيحددها، وكأنه أحس أن
تعريفه يحتاج إلى شروط كي يصبح تعريفاً له شَبه بالتعريفات، فهل تظن أنه يُقر
عينك بذكر هذه الشروط ليجعلك تشعر بالراحة وتتنفس الصُّعَداء؟!
لا، لن تفرح بذلك! فهذه مشكلتك، عليك حلها بنفسك! اسمعه يقول:
(وأما شروطه (المنهج) فبوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته
ومهمته). وإذا ما أخفقت في معرفة هذه الشروط فهذا يعني أنك لا تدرك طبيعة
المنهج ولا مهمته! وإذن فأنت لست جديراً أن تكون من قرائه، ولست
مقصوداً فيما يكتب؛ لأنه:
عليه نحت القوافي من معادنها وما عليه إذا لم تفهم
إن القارئ سيصيبه الدوار إذا ما ظن أنه - بترديده ما كتب البوطي عن
المنهج - يمكن أن يظفر بشيء، وسوف يكتشف أخيراً أن الرجل يتلاعب بعقله
ليوهمه أن ما كتب حول المنهج له معنى متماسك، إنك تطالبه بشروط المنهج حتى
تتضح معالمه فيقول لك: (بوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته ومهمته)،
ثم يمضي بك موهماً أنه ذكر شروطاً، لكن حين تريد أن تضع بداية ونهاية لهذه
الشروط وتحصرها في عبارة واضحة لها دلالة فإنك تطلب المستحيل!
وتمضي في القراءة لتعثر على عبارة تظن أنها ستفتح لك ما استغلق،
وتكشف ما غمض، فتكاد تصيح مثل أرخميدس: (وجدتها)، إنها قوله:
(إذن فمن أهم شروط سلامة المنهج ... ) لكنك تتبين أن هذه العبارة
وما بعدها ليست بداية الشروط، بل نهايتها، واخيبتاه! فترجع أدراجك إلى
الفقرة السابقة وقد فركت عينيك ووسعت حدقتيهما وأحددت النظر بهما لتبحث عما
كانت العبارة السابقة فذلكة له فتجد شيئاً مثل:
(فقد كان الإنسان بحاجة إلى أن يرصد خطوات هذا المنهج في أغوار
فكره، وأن يتلمس آثارها في شغاف وجدانه (العرب تعرف شغاف القلب، فما
الوجدان؟ وما شغافه؟!) وساحة شعوره، ثم يصوغها في عبارات دقيقة،
ويصبها في قواعد منضبطة، ثم يجعل منها مشعلاً هادياً في طريقه إلى المعرفة،
وملاذاً يتقي به الشرود في أودية التيه والضلال.
وهكذا فإن تحول المنهج الفطري من شعور وتفاعل خفي في الفكر والنفس
إلى قواعد مدونة مضبوطة ماثلة للعيان، من شأنه:
أن يجمع شوارد الأفكار عليه، وأن يبعد عوامل التلبيس والكيد عن التسلل
¥