إلى ساحة المعرفة، ودائرة النظر والمحاكمة العقلية في الذهن، في حين لو بقي
شعوراً غامضاً في النفس وفطرة مستكنة في أغوار الفكر؛ لأمكن أن تتسلل إليه
الشوائب، وأن تحاط بعوامل الغموض والريب، وأن يغشي عليها المبطلون
بزخرف القول وزيف الأدلة الباطلة). [ص61]
أرأيت إلى هذه الخطبة العصماء خطبة ولا خطبة زياد البتراء!
سنحاول أن نشير إلى خطوط عريضة في منهج البوطي - الذي هو غير
منهج السلف قطعاً، وكون منهجه غير منهج السلف أمر يسره ويسر السلف والحمد
لله - وسنستخدم عبارته هو في طريقة تناولنا لهذا المنهج المبتكر! فنحن ليس لنا
حياله إلا: (الرصد، ثم الاكتشاف، ثم الصياغة والتقعيد. أما الإبداع والاختراع
فإن المنهج أبعد ما يكون عن أن يأتي ثمرة لذلك):
1 - استهانة بالمراجع:
يتعامل البوطي مع المراجع تعاملاً غريباً وعجيباً، وكما سبق أن قلنا، فإنه
يخرق الأعراف والتقاليد، ويحب دائماً أن يكون نسيجاً وحده، فتراه يحيلك على
كتب ويذكر أرقام أجزاء وصفحات، فتحب أن تتأكد لا من النقل ذاته والإحالة
نفسها أحصلت أم لا- ولكن من سياق العبارة، فتفاجَأ بعدم وجود ما يتحدث عنه
البتة، كما حدث في صفحة 47 من كتابه حيث أحال على كتاب (الاعتصام)
للشاطبي، ج2، ص242، وبعد الرجوع إلى هذا الموضع من كتاب الاعتصام لا
تجد أثراً للموضوع الذي يتحدث عنه.
وكذلك فعل في صفحة 37 فأحال على (المدخل) لابن الحاج، ج4، ص
155 ولا أثر لما أحال من أجله في ذلك الموضع! بل وجدنا في (المدخل) 4/
157 ما يلي: (وقد نقل عن السلف - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا
ينخلون الدقيق، ونخله من إحدى البدع الثلاث المحدثة أولاً)؛ لكن البوطي
يجعل هذه العبارة هكذا: (ومعلوم أن الروايات تواردت (!!) عن السلف أنهم كانوا
في أول عهدهم لا ينخلون الدقيق وأنهم يرون نخله بدعة). [ص39]، وكذلك فعل
في أكثر من مكان فمما يتعلق بإحالاته على (فتح الباري)؛ ففي صفحة 135 أحال
على (الفتح)، ج 7، ص82 وج3، ص315 ولم نجد في هذين الموضعين
شيئاً مما ذكر، بل وجدنا ما له تعلق بثاني الإحالتين في ج3، ص342،
وسنرجع إلى هذه الإحالة لنرصد ماذا فعل البوطي بها من الأفاعيل!.
وأمر آخر يخرق البوطي به الأعراف العلمية، ويبعج البحث العلمي بعجاً،
وهو تداخل عبارته بالعبارة المنقولة أو المحال عليها، فيصبح بين العبارتين تزاوج
أو اتحاد، ولا يمكن التمييز بعدُ بين عبارة الناقل وعبارة المنقول له، وتمتزج
الأمور بصورة طريفة، وهناك أمثلة كثيرة في كتابه لهذا الأمر، وسنكتفي بذكر
مثال واحد - مع أنه مثال طويل - ولكن ماذا نفعل؟! فإن البوطي يأبى إلا أن
يحمل قراءه على أصعب الخطتين. وهذا المثال إحالة إلى (الرسالة) للشافعي.
يتكلم البوطي كلاماً طويلاً لسنا الآن بصدد تحليله، ثم يختم كلامه هذا برقم
ترجع إليه في الحاشية لتقرأ: انظر باب (العلم) من كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي
357 بتحقيق أحمد شاكر، وتتحير بعد قراءة هذه الحاشية: هل هذا الكلام الذي
سبق وكتبه هو كلامه أو كلام الشافعي؟ أو شرح لكلام الشافعي؟ إن كان كلامه؟
فَلِمَ أَحال على الرسالة؟.
وإن كان كلام الشافعي؛ فَلِمَ لَمْ يحصره بين حاصرتين حتى نعرف بدايته
ونهايته؟!
وإن كان شرحاً لكلام الشافعي فلِم لم يذكر ذلك؟ كلها أسئلة تحتاج إلى جواب.
ومع أننا سنجد صعوبة في تحديد بداية نقلنا لكلامه ذاك، لكننا سنلجأ إلى
الخرص والتخمين في ما يمكن أن يكون بداية - ونحن مكرهون على ذلك يشهد الله،
ومعذورون لذلك إن أخطأنا التحديد. يقول: (فإذا فعل المسلم ذلك؛ فلا بد أن
يصل إلى العلم بحقائق هذا الدين الذي جاء به كتاب الله. وسيجد عندئذ أن هذا العلم
ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: علم يشمل عامة الناس، على اختلاف مداركهم ومنازلهم
العلمية، ما داموا عقلاء راشدين. فلا يعذر أحد في جهله، ولا سبيل إلى اقتحام شيء
منه بأي تأويل له أو تنازع في فهمه أو خطأ في روايته. وهذا العلم يشمل كليات
العقائد وبدهيات الفروض والأحكام، كالعلم بفرضية الصلوات الخمس وأن لله على
الناس صيام شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وأن عليهم زكاة في
أموالهم، وأنه حرم عليهم الربا والزنا والقتل والسرقة والخمر.
¥