فهذا الصنف من العلم موجود كله نصاً في كتاب الله، ومعروف عند أهل
الإسلام عامة، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه.
وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه بقطعي الدلالة والثبوت. أي كل نص
وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر، وكانت صياغته ودلالته على معناه من
الوضوح بحيث لا يحتمل أي تأويل له أو أي خطأ في فهمه.
ومن أحكام هذا النوع من العلم أن الناس كلهم مكلفون به، ولا يسع بالغاً غير
مَغْلوبٍ على عقله جهلُ أي شيء منه. ومن أحكامه أيضاً أن الاجتهاد غير وارد فيه؛
إذ الاجتهاد قد لا يرقى بصاحبه في كثير من الأحيان فوق درجة الظن، وقد يقع
فيه الخطأ، ثم إن الناس متفاوتون في القدرة عليه، مختلفون في النتائج التي
يصلون به إليها. وهذا القسم من العلم مبرّأ، كما قد أوضحنا، من ذلك كله).
[ص73 من كتابه].
أما كلام الإمام الشافعي المحال عليه فهو:
(قال الشافعي: فقال لي قائل: ما العلم؟ وما يجب على الناس في العلم؟؛
فقلت له: العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله.
قال: ومثل ماذا؟
قلت: مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج
البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة
والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كُلِّفَ العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من
أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه: ما حرم عليهم منه.
وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، وموجوداً عاماً عند
أهل الإسلام، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا
يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا يجوز
فيه التنازع.
قال: فما الوجه الثاني؟
قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخص به من الأحكام
وغيرها، مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء
منه سنة، فإنما هي من أخبار الخاصة، لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل
التأويل ويُستدرك قياساً.
قال: فيعدو هذا أن يكون واجباً وجوب العلم قبله؟ أو موضوعاً عن الناس
علمه، حتى يكون من علمه منتفلاً ومن ترك علمه غير آثم بتركه؟ أو من وجه
ثالث، فتوجدناه خبراً أو قياساً؟
فقلت له: بل هو من وجه ثالث (. [الرسالة، ص 357].
ومن هذين النصين المنقولين يظهر لنا أن كلام الشافعي يختلف عما أوهم
البوطي أنه كلام الشافعي، وأن القارئ العادي الذي قد يكون على عجلة من أمره قد
يغتر بتلبيسه بتلك الحاشية المدلسة التي تجعله يظن أو يعتقد أن الشافعي قال ذلك
الكلام!
فقارن مثلاً بين عبارة الشافعي حيث يقول:
(وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا
يجوزفيه التنازع) وبين ما فهمه البوطي منها بقوله:
(وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه (مَن هم؟!) بقطعي الدلالة
والثبوت، أي كل نص وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر (الشافعي لم يذكر
التواتر) وكانت صياغته ودلالاته على معناه من الوضوح بحيث لا يحتمل أي
تأويل له أو أي خطأ في فهمه).
وقل مثل ذلك في إشارته إلى كتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي عند تعرضه
للمرجئة في ص112، حيث عرَّف المرجئة تعريفاً لم يشر إليه البغدادي لا عند
إشارته إلى المرجئة إجمالاً في أول كتابه ولا حين فصَّل القول في هذه الفرقة
ومذاهبها فيما بعد. وتفصيل عبث البوطي في هذه القضية وحدها يحتاج إلى مقال
خاص.
أما قصته مع ابن تيمية فهي أمر يحتاج إلى وقفة خاصة ليس هذا وقت
الحديث عنها. ولكننا نكتفي بضرب مثال على تصرفه وتلاعبه بكلام ابن تيمية من
أجل أن يقيم الحجة عليه وعلى مَن ينصر آراءه، وأسلوبه هذا يذكِّر بأسلوب الشيعة
في الاحتجاج، حيث إنهم ينتقون من آراء أهل السنة ما يظنون أنه حجة عليهم مع
أنهم لا يؤمنون هم - أي الشيعة - بمصادر أهل السنة، وهي عندهم لا تصلح
للاحتجاج؛ لأنها تعارض ما اصطلحوا عليه من أنه أدلة لهم.
يقول: (ومن ذلك ما رواه ابن تيمية - رحمه الله - عن جعفر الصادق
(رضي الله عنه)، من تأويله (الوجه) في قوله - تعالى -:] كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ
¥