وجْهَهُ [[القصص: 88]، بالدين. وما رواه عن الضحاك من تأويله (الوجه) في
الآية ذاتها بذات الله والجنة والنار والعرش. أما هو - أي ابن تيمية ذاته - (بلحمه
وشحمه وعظمه ودمه!) فقد رجح أن يؤول (الوجه) بمعنى الجهة، فيكون المعنى:
كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله - تعالى -.
ثم قال: (وهكذا قال جمهور السلف) [ص135].
أما ابن تيمية فقد أشار إلى هذه القضية ضمن كلام رائع له في الرد على
القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، لكن البوطي اقتطع من كلام ابن تيمية ما
ظن أنه نصر لحجته، ثم يا ليته اكتفى بهذه الإساءة بل أشبع هذا المقتطع مسخاً
وتشويهاً، أما عن حقيقة الدافع له إلى ذلك: أهو الهوى أم قصر الباع أم ضيق
الصدر؟ فهذا ما نتركه للقارئ ليكتشفه بنفسه.
يقول ابن تيمية:
روي عن أبي العالية قال: (إلا ما أريد به وجهه) وعن جعفر الصادق: (إلا
دينه) ومعناهما واحد. وهذا مخالف لقول البوطي: (روى ابن تيمية عن
جعفر الصادق)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى معلوم ماذا يعني اصطلاح:
رُوي، بالبناء للمجهول، عند أهل الحديث.
ثم نقل ابن تيمية ما ورد من الأقوال في الآية على عادته في الاستقصاء،
وهو من خلال سوقه لهذه الأقوال يتوقف مناقشاً مؤيداً أو معترضاً، وقد يستطرد
قليلاً لجلاء نقطة يرى توضيحها من بحث لغوي، أو فقهي، أو تاريخي، أو غير
ذلك، ثم قد يعود لمتابعة نقله الأقوال، إما معضداً رأياً رآه، أو لاستبعاد وهم قد
يطرأ، وشبهة قد تثار. هذا هو أسلوب الرجل، وهو لذلك يحتاج إلى شيء من
الصبر وسعة الصدر حتى يُتذوَّق، وتنفتح عجائبه، وتكتشف أوابده، ولكن أنَّى
لرجل نَزِق ضيّق الصدر أن يصبر على ذلك؟! وكيف به إذا جمع إلى ذلك هوى
مستحكماً وعقدة نفسية من ابن تيمية؟!
ثم بحث ابن تيمية عن اشتقاق كلمة (الوجه) مما يبدو أن البوطي لم يفهمه
لضيق صدره، فقال - أي ابن تيمية -:
(وذلك أن لفظ (الوجه) يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد
والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة). لكن فِعْلَة حذفت
فاؤها وهي أخص من الفعل، كالأكل والإكلة، فيكون مصدراً بمعنى التوجه
والقصد، كما قال الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست مُحصيَهُ ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ
ثم إنه يسمى به المفعول، وهو المقصود المتوجه إليه، كما في اسم الخلق،
ودرهمٌ ضَرْبُ الأمير، ونظائره، ويسمى به الفاعل المتوجه، كوجه الحيوان،
يقال: أردت هذا الوجه، أي هذه الجهة والناحية، ومنه قوله:] ولِلَّهِ المَشْرِقُ
والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ [[البقرة: 115]، أي قبلة الله ووجهة الله،
هكذا قال جمهور السلف [مجموع الفتاوى: 2/ 429].
ومن قراءة النص الأصلي لابن تيمية لا النص المحرَّف - نستنتج أنه لم
يؤول كما زعم البوطي بل استدل بما ورد من أقوال السلف في هذه الكلمة، وبلغة
العرب التي يهوِّل بها البوطي كثيراً حتى لتظنه الخليل بن أحمد أو ابن جني، وهو
ليس بذاك.
ولو ذهبنا لتتبع تعامل البوطي مع المراجع - في كتابه هذا فقط - لطال
الكلام، ولكن حسب القارئ الكريم أن يعرف أن هذه القضية فرع لما أشرنا إليه في
مقالنا السابق عنه من خيلاء ضارة، واستهانة بأقدار الناس أحياءً وأمواتاً، وسوء
تقدير لهم، وإساءة ظن بهم، قدر إحسانه الظن بنفسه، هداه الله.
التواء وتهويل:
الشيخ البوطي يحب التهويل، حتى ولو أوقعه هذا التهويل فيما لا تحمد عقباه،
فمن حيث الأسلوب عنده القدرة التعبيرية التي تريك المهم هيناً، والهين السخيف
عظيماً ومشكلة لابد لها من هز الأكتاف وقرع الظنابيب، حتى يُتَغَلَّبَ عليها، وهذه
القدرة تذكرنا بالبراعة التي عُرف بها الفارابي في الموسيقى - فيما زعموا - أنه
في أحد مجالسه مع سيف الدولة لم يعجبه عزف العازفين الذين عزفوا أمامه،
وأظهر أخطاءً كثيرة لكل واحد منهم، فتعجب سيف الدولة من ذلك وسأله إن كان
يحسن هذه الفنون، فأجاب بالإيجاب، ثم أخرج من وسطه خريطة (جراب من
جلد) ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها ثم عزف بها، فضحك كل مَن كان في
المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر، وضرب بها، فبكى كل مَن كان في المجلس!
¥