المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر
صحيح مسلم عند العقلاء، ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين
وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه. وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات
متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيباً مجملاً لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة
على ما في أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل
والكفر والضلال». [مجموع الفتاوى 9/ 184 - 185].
هذا ما جاء فيه ذكر الغزالي في هذا الموضع، فهل فيه اتهامات؟ فقد قال ابن
تيمية أن نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، وأن هذه الطريق كثر
استعمالها منذ زمن الغزالي، وأنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه
«المستصفى»، وزعم - أي الغزالي - أنه لا يوثق بعلم من لا يعرف المنطق،
وصنف في المنطق كتباً مثل: «معيار العلم» و «محك النظر»، وصنف أيضاً
«القسطاس المستقيم» و «تهافت الفلاسفة»، فهل هذا كذب على الغزالي؟
وبين أن الغزالي بيَّن كفر الفلاسفة وأسبابه، وكذلك ادعى على الغزالي أنه
حكم بفساد طريق المعرفة على طريق الفلاسفة وادعى ذمه لطريق المتكلمين؛ فهل
هذه مجرد دعاوى لا دليل عليها، أم أن أدلتها مبثوثة في كتب الغزالي المعروفة؟
وكذلك ذكره التطور الذي حصل لأبي حامد وأنه مات وهو مشتغل بالبخاري
ومسلم، هل هذه دعوى غير صحيحة؟ أم أنها لوم وشيء معيب أن يسند للغزالي؟
هل في قول من قال في عالم من العلماء: إنه قال كذا، وفعل كذا وبيان
أسباب ذلك ظلم لهذا العالم أو تهمة أو لوم؟
ثم ما معنى قولك:
«بل إن ابن تيمية - رحمه الله - ازداد حماسة في الهجوم على المنطق
ومقاييسه واصطلاحاته، حتى لكأن فرط الحماسة أنساه ما قد قرره بشأن علم الكلام،
وجواز الاستفادة من اصطلاحات المناطقة وأساليبهم في بيان الحق، فأخذ يقرر
بأن ما يعتمده النظار من أهل الكلام من الأدلة العقلية شيء لا حاجة إليه ولا موجب
للاشتغال به؛ فإن القرآن جاء بما يغني عنه»، [ص 160].
لماذا تغار على المنطق غيرتك على الغزالي حتى لكأنهما توأمان؟، وهل
علم المنطق وعلم الكلام شيء واحد في نظرك؟ إن ابن تيمية لم يخرج عن ما قرره،
ولم يناقض نفسه -كما يحلو لك أن تثبت، وتقيم ما تسميه أنت أدلة على ذلك -
فالموضع الذي تشير إليه على أن ابن تيمية تحدث فيه طويلاً في علم الكلام، وحكم
دراسته وممارسته والاحتجاج في مسائل العقائد الإسلامية به؛ وانتهى بحمد الله إلى
أن ممارسته ليست بدعة، والاعتماد عليه في الدفاع عن العقائد الإسلامية ليس
محرماً، إذا لم يقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني ما قد يكون من المقولات
الباطنة!
نقول: هذا الفعل منك تحميل لكلام ابن تيمية ما لا يحتمل، وعلى طريقتك
في البتر والقصقصة والتشويه تستدل على ما تريده، وتلوي كلام ابن تيمية عن
مقصده، متوهماً أنك بهذا البتر والتشويه تصير كلامه ملائماً لهواك.
ولكن هيهات! فأي عاقل يقرأ كلام ابن تيمية في سياقه التام يكتشف استهانة
وتلاعباً بالنصوص لا يليقان بطلبة العلم فضلاً عن الذين نصبوا أنفسهم للتدريس
والإرشاد.
ولو وضعنا - هنا - الكلام الذي يحيل على شذراته؛ بتمامه؛ لطال
الموضوع، ولأمللنا القارئ، فليرجع من يشاء إلى ذلك الموضوع من مجموع
الفتاوى 9/ 293 - 327، وليقرأ كلاماً كانت له روح هناك، فجاء البوطي وانتزع
روحه، وجعله عضين، وقدمه على أنه هو الذي يقول به ابن تيمية!
والغريب أنه لا يفطن لهذا التشويه؛ فيبني عليه، أو يستنتج منه آراء شائهة
من مثل قوله: «فإن أحداً منهم لم يتبن المضامين الباطلة للفلاسفة والمناطقة
اليونانيين» [ص 159].
وقوله: «وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن تيمية على أذهان كثير
ممن يقرءون له بسطحية ودون صبر أو استيعاب» [ص 61]، ففي كلامه هذا
أمور:
1 - وصف لكلام ابن تيمية بالاضطراب.
2 - انعكاس هذا الاضطراب على أذهان كثير ممن يقرءون لابن تيمية
بسطحية ودون صبر أو استيعاب، وهذه العبارة ملتوية أشد الالتواء، وبيان ذلك أن
وصف كلام ابن تيمية بالاضطراب تركه البوطي معلقاً، حتى إذا قال له قائل: يا
شيخ، كثير عليك أن تحكم على كل كلام ابن تيمية بالاضطراب، لربما قال: لا،
¥