أنا لا أقصد جميع كلامه؟ وإنما أصف بالاضطراب هذه الفقرة التي نقلتها من
الجزء التاسع ص 225 من مجموع الفتاوى! فيقال له: حتى على هذه النية، أين
الاضطراب في هذا الكلام؟ وهل هذه الفقرة وحدها كافية لبلبلة أفكار من يحكم
عليهم البوطي هذا الحكم الجائر؟ فإن كان كلام ابن تيمية مضطرباً كله فهو يعني
قراءه، وأنت منهم! إلا أن تحصن ذهنك من الاضطراب بالابتعاد عنه، والفرار
منه فرارك من مجذوم! وياليتك فعلت هذا؟ إذن لكفيت واستكفيت، ولكن ها أنت
من قراء ابن تيمية! لكن استغفر الله، فقد كدنا ننسى ما قلت، فأنت من القلة القليلة
التي أفادها مفهوم كلامك السابق، والتي تقرأ له بعمق وصبر واستيعاب!، فالحمد
لله الذي عصمك - عند نفسك - من الاضطراب!
مثال من المبالغة والتحدي الفارغ:
قد يظن ظان أن هجوم البوطي على ابن تيمية، واستظهاره بالغزالي آت من
دراسة مستفيضة لعلم الرجلين، ومن تعمق فيما كتبا، ثم من تبيُّن عادل لما كتبه
ابن تيمية حول الغزالي؛ أو حول المسائل العلمية التي تعرض لها، ومن توصل
إلى أن وجه الحق في هذه المسائل كان إلى جانب الغزالي ...
والحق أن كل ذلك لم يكن - وسوف نبرهن على ذلك - وإنما الذي كان أن
البوطي سمع من المتعصبين مثله أن ابن تيمية عاب على الغزالي، وهو بنظر
هؤلاء (قدس الأقداس) الذي لا يُمس ولا يُنتقد.
ومن جهة ثانية يريد البوطي أن يجعل هذه المشكلة - انتقاد ابن تيمية للغزالي
- سلاحاً من الأسلحة التي يرمي ابن تيمية بها، لعله يصيب منه مقتلاً بعد أن تيقن
أن علمه وآراءه لم تمت، وأنه لا زال حياً على الرغم من قول متعصب شعوبي
حاقد من المتأخرين [2] فيه: «وحيث لم يكن له شيخ يرشده في العلوم النظرية
أصبح علمه لا يرتكن على شيء وثيق خليطاً كثير التناقض، توزعت مواهبه في
أهواء متعبة، ثم أفضى إلى ما عمل وزالت فتنته برد العلماء عليه».
ولا شك أن البوطي قد مر بهذه العبارة المظلمة، ولا ندري هل أمَّن عليها؟
أم أشاح عنها وجهه لقبحها وعفونة رائحتها؟! إن كان أمَّن عليها فقد أمَّن على
كذب، وإن كان أشاح عنها فمضمون كلامه عن ابن تيمية مخالفة عملية لهذه
الإشاحة!
وحتى نقيم الدليل على مجازفات البوطي ننقل فقرة من فقر كتابه تدلك على ما
حكمنا به عليه من قلة التعمق والتبين التي سببها العجلة أو الهوى أو كلاهما، يقول
عن الغزالي:
« ... وأما أنه قد انطلى عليه شيء من أوهامهم أو انزلق إلى أي من الباطل
الذي ضلوا في أوديته، فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه، بل شهد بنقيض ذلك ابن
تيمية نفسه (سبحان الله)، وما عرف تاريخ الفلسفة رجلاً مزق الأوهام الفلسفية
بمباضع المقاييس الفلسفية ذاتها (هذه استعارة مكنية!)، وانتصر للحق الذي دل
عليه كتاب الله عز وجل، بالاصطلاحات الفلسفية نفسها كالإمام الغزالي»
[ص 163].
ليس ابن تيمية وحده من ينقض أمثال هذه الفقرة التهويلية التي جادت بها
قريحة الشيخ البوطي، بل هو عندما يشير إلى أن الغزالي تأثر بأساليب الفلاسفة
ينقل كلام العلماء قبله من جهة، ويعتذر للغزالي من جهة أخرى؛ لأنه لم يتيسر له
العلم بالسنة، التي تعصم الإنسان من العدوى بطرق الفلاسفة وأساليبهم، ومعروف
أن الغزالي قال: «بضاعتي في الحديث مزجاة»، وكتبه - ومن أشهرها الإحياء
- تشهد بذلك (ولا ندري أينكر البوطي ذلك؟!)، وابن تيمية في نقده ينهج المنهج
الأعدل، فيبين أوهامه وأسبابها وعذره فيها، ويذكر ما له من محاسن، ويذكر
أقوال العلماء فيه فلا يقبل ما جاء به دون نقاش، ولا يرد كل ما جاء به دون دليل،
يقول عن الغزالي:
«ولكن كان هو وأمثاله -كما قدمت - مضطربين لا يثبتون على قول ثابت؛
لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر
لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول - صلى الله عليه
وسلم - العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن، - كما قدمناه -، وأهل
الفهم لكتاب الله والعلم، والفهم لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإتباع
هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.
ولهذا كان الشيخ «أبو عمرو بن الصلاح» يقول - فيما رأيته بخطه -:
¥