«أبو حامد كثر القول فيه ومنه، فأما هذه الكتب (يعني المخالفة للحق) فلا يلتفت
إليها، وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله». ومقصوده: أنه لا
يذكر بسوء، لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب،
وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن
غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على
انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لاسيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح،
والعمل الصالح والقصد الحسن. وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب
التصوف والعبارات الإسلامية.
ولهذا: فقد رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن
العربي، فإنه قال: «شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج
منهم فما قدر». وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك
في كتبه. ورد عليه أبو بكر الطرطوشي، ورد عليه أبو الحسن المرغيناني ورفيقه،
رد عليه كلامه في مشكاة الأنوار ونحوه، ورد عليه الشيخ أبو البيان، والشيخ
أبو عمرو ابن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي وغيرهما،
ورد عليه ابن عقيل، وابن الجوزي، وأبو محمد المقدسي وغيرهم». [مجموع
الفتاوى 4/ 65 - 66].
ويقول عن كتابه الإحياء:
«و (الإحياء) فيه فوائد كثيرة؛ لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة
من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان
بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين. وقد أنكر أئمة الدين على
«أبي حامد» هذا في كتبه، وقالوا: مرضه (الشفاء) يعني شفاء ابن سينا في
الفلسفة.
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة؛ بل موضوعة كثيرة. وفيه أشياء من أغاليط
الصوفية وترهاتهم. وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين
في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما
هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس
وتنازعوا فيه». [مجموع الفتاوى10/ 551 - 552].
وهكذا يتبين لنا من هاتين الفقرتين السابقتين حقيقة الدعوة العريضة من قول
البوطي: «فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه»! ياليته ذكر لنا أسماء من أهل هذه
الدنيا! وقوله كذلك: «بل شهد بنقيض ذلك ابن تيمية نفسه»! فهلا ذكر الشيخ
أين شهد ابن تيمية بنقيض ذلك؟! وما تبق من فقرة الشيخ فهو صراخ وحدة
وتحدي «قبضايات» لا علماء.
على أننا نضع هنا بين يدي البوطي درساً في النقد يعلمناه ابن تيمية لعله
ينتفع به، فتهدأ نفسه وتعتدل، ويضعه نصب عينيه إذا كتب في المستقبل معلماً
ومرشداً وناقداً، إذن، يكفر عن تحامله وأخطائه التي يقتحم فيها بدافع العجلة
والهوى، ولا ريب عندنا وعند الشيخ أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في
الباطل.
يقول ابن تيمية في معرض ذكره شيئاً مما ينتقد على أبي ذر الروي واعتذاره
له، ولمن ينتقد عليه شيء من العلماء، وذكره ما هو معروف عنه من العلم والدين
والمعرفة بالحديث والسنة، وغير ذلك من المحاسن والفضائل:
«ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات
مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل
السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل
وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً من المعتزلة، وهم
فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما
أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم؛
لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع
والباطل، وخيار الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين،
والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات؟ ويتجاوز لهم عن السيئات،
] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [[الحشر 10].
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله
¥