ومن ذلك أيضاً قوله: (مما يصلح أن يكون ضابطاً للتكفير)، ودرساًً
للذين يلقون الكلام على عواهنه-:
(ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي
تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال:] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى
أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم قاتلهم
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة
الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن
أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم
حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم بدفع ظلمهم وبغيهم
لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله
ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه
عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف
أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا
كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة
هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمه من بعضهم على
بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطبهم
في حجة الوداع:» إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
في بلدكم هذا في شهركم هذا «وقال -صلى الله عليه وسلم-:» كل المسلم على
المسلم حرام: دمه وماله وعرضه «وقال -صلى الله عليه وسلم-:» من صلى
صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله «وقال:» إذا
التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار «، قيل: يا رسول الله؛ هذا
القاتل، فما بال المقتول؟ قال:» إنه أراد قتل صاحبه «وقال:» لا ترجعوا
بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض «، وقال:» إذا قال المسلم لأخيه يا كافر!
فقد باء بها أحدهما «، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر ابن
الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق،
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:» إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع
على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ «وهذا في الصحيحين.
وفيهما أيضاً: من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة:
إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي -صلى الله عليه
وسلم- بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر
النبي -صلى الله عليه وسلم- لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة ببن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله
إلا الله، وعظم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لما أخبره، وقال:» يا أسامة،
أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ «وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم
أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية ولا كفارة، لأنه كان
متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم
مسلمون مؤمنون كما قال تعالى:] وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ [فقد بين الله تعالى
¥