ورجل ثالث (وهو الكوثري)، يتتبع الثاني بما لا طائل تحته.
ورجل رابع (وهو البوطي) يؤيد الأول، ويستصغر بالثالث، ويتهم الثاني
(بالخلط والتخبط) طبقاً لمبدأ (رمتني بدائها وانسلت)!
أما الأول: فساق القضية مجردة عن الدليل، على سبيل التعداد.
وأما الثاني: فذكر أدلته فقال: دليلي على أن لا إجماع على القول بالتكفير
لمن خالف منطوق أن الله خالق كل شيء أنني وجدت طوائف من المسلمين
(وسماهم) لم يتفق السلف وأهل السنة والجماعة على تكفيرهم، بل تنازعوا في
كفرهم، ومعلوم أن ابن تيمية ينقل ما يعرف، وهو الذي عاش في أواخر القرن
السابع وأوائل القرن الثامن، ومن يدري فلربما لو كان البوطي معاصراً، له وبلغه
قوله هذا لأثبته، كأن يقول: أما ما قاله البوطي في كتابه السلفية [1]: (غير أنني
ما سمعت وما رأيت إلى هذا اليوم أن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم يخلقها
الله، وها هي ذي كتب الفرق والملل والنحل أمامنا، ولم أجد في شيء منها مثل
هذا النقل عنهم) فيقال له: ما دامت كتب الفرق والملل والنحل أمامكم فافتح منها
الجزء الثالث من: (الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم) ص 54 واقرأ:
(قال أبو محمد: اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده، فذهب أهل السنة
كلهم، وقل من قال بالاستطاعة مع الفعل؛ كالمريسي، وابن عون، والنجاربة،
والأشعرية، والجهمية، وطوائف من الخوارج، والمرجئة، والشيعة؛ إلى أن
جميع أفعال العباد مخلوقة، خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها. ووافقهم على هذا
موافقة صحيحة من المعتزلة: ضرار بن عمرو، وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد.
وذهب سائر المعتزلة، ومن وافقهم على ذلك من المرجئة، والخوارج والشيعة إلى
أن أفعال العباد محدثة، فعلها فاعلوها، ولم يخلقها الله عز وجل).
فماذا عسى البوطي يقول بعد ذلك؟ أيصر على تكذيب ابن تيمية ويجمع إليه
تكذيب ابن حزم الذي يدافع عنه؟ هذا لا يكون! لأن القضية تسقط برمتها حيث
سقط موضوعها.
لقد كان البوطي في غنى عن هذه النهاية التي انتهى إليها لو أنه قرأ كلام ابن
تيمية كاملاً [2]، ولم يحذف منه ما حذف ومع ذلك تراه يقول: (هذا هو كلام ابن
تيمية بطوله)!، والقارئ يعجب ويحار في تفسير هذا الحذف في هذا الموضع:
هل هو الحرص على تكذيب ابن تيمية وعدم الثقة فيما ينقل، مع أن الرجل لم
يرمه أحد من خصومه بالكذب والتقول، وخاصة في نقل آراء الناس والفرق، بل
المشهور عنه أن الناس تضبط ما عندها من آراء الفرق والمذاهب على نقله. أم
لأنه ذكر الشيعة فيمن ذكر ممن يقول بخلق أفعال العباد؛ فخاف البوطي من تبعة
النقل، أو جامل على الأقل، عادّاً ذلك من الحكمة مثلاً! أم هو دافع العجلة
والتسرع وغليان الدم؟ الله أعلم أي ذلك كان!
إن الشيخ يثير الشفقة حقاً.
يثير الشفقة حينما يحرص على أن يصم ابن تيمية بالتناقض.
ويثير الشفقة حينما يخلط اجتهاداته بكلام الكوثري.
ويثير الشفقة حين يقول: (ودونك فاستعرض ما هو مدون في مجموع فتاوى
ابن تيمية تجده يكرر الحكم بتكفير من ينساق وراء أحد هذين الوهمين في كل
مناسبة).
ويثير الشفقة حينما يعد بنقل بعض من تلك النصوص، لكنه لم يفعل، ولكن؛
ألم يعلق الأمر على مشيئة الله؟! إذن، فلا لوم عليه!
تبقى مسألة أخيرة تتعلق بهذا الجدل غير المتكافئ، فالقارئ لتعليق البوطي
يخرج بنتيجة وهي أن ابن تيمية يرى رأي هؤلاء الذين يقولون: (إن أفعال العباد
محدثة، فعلها فاعلوها، ولم يخلقها الله عز وجل).
بل يفهم القارئ - من حدته وخوضه يميناً وشمالاً - أن لا أحد يقول بهذا
القول إلا ابن تيمية، وهذا واضح من نفيه أن يكون أحد قد قال بذلك، وأنه (ما
سمع ولا رأى)، لا هو ولا العلامة المحقق الكوثري [3] أن القدرية يعتقدون ذلك،
ولا يدري أن رأي ابن تيمية فيمن يقول بهذا القول يوجد في غير هذا الوضع الذي
يختص - فقط - في بيان حقيقة بعض الإجماعات التي يدعيها بعض الناس؟ وقد
أشار رحمه الله إلى ذلك بعبارة تبين مقصوده، وتدفع كل توهم فقال: (والمقصود
هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات). أي لا مجال هنا لتفصيل
القول فيمن قال بالتكفير ومن لم يقل، لكن (الهوى يعمي وبصم) كما كتب الكوثري
¥