إن صاحب المنهج الحق لا يستجدي موافقة الآخرين وتصديقهم له؛ فإن فعلوا
فهم على الحق، وقلوبهم متحررة من شوائب الأهواء والعصبيات وإن لم يفعلوا
كانوا عكس ذلك. إنه يبين منهجه، ويقول كلمته، ويفصل بحججه ما وسعه
التفصيل، ويثق بعقول قرائه دون وصاية أو إغراء أو تحذير.
يقول البوطي في صدد دفاعه عن القائلين بوحدة الوجود وتشنيعه على من
ينتقدهم:
« ... وخلاصة المشكلة أنه (أي ابن تيمية) ومن يقلده في نهجه يظلّون
يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم، دون أن يحملوا أنفسهم على التأكيد من
أنهم يعتقدون فعلاً ذلك اللازم الذي تصوروه.
أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب
الكفر، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه. وأمّا أن يدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن ابن
عربي كافر، وأنه ينطلق في فهم (شهود الذات الإلهية)، من أصل كفري هو
نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه. فإن كتب
ابن عربي تفيض بالبيانات المفصلة المكررة التي تناقض هذا الأصل الكفري. هذا
بالإضافة إلى أنه قد بات معلوماً ومؤكداً أن طائفة معلومة من الزنادقة الباطنية دسوّا
ما شاؤوا أن يدسوّا في كتبه. ذكر ذلك المقري في (نفح الطيب)، وأكده ابن عماد
في (شذرات الذهب)، وأكده في قصة طويلة الإمام الشعراني في (اليواقيت
والجواهر)، وذكره الحاجي خليفة في (كشف الظنون)، ولا نشك في أن ابن تيمية
ينبغي أن يكون في مقدمة من يعلم ذلك.
ولست في هذا منطلقاً من عصبية لابن عربي أو غيره. بل إن الميزان
الوحيد عندي في ذلك هو القاعدة الشرعية التي يجب اتباعها عند الإقدام على تكفير
أناس أو تضليلهم، وهي قاعدة معروفة لأهل العلم جميعاً وفي مقدمتهم ابن تيمية -
رحمه الله -.
ولقد حكّمت هذه القاعدة في حق ابن تيمية، قبل تحكيمها في حق ابن عربي،
فلقد نقلت فقرات من كلامه الذي يتضمن إقرار الفلاسفة في اعتقادهم بالقدم النوعي
للمادة، وبوجود قوة طبيعية مودعة في الأشياء بها تحقق فاعلياتها وتأثيراتها، بل
يتضمن الدفاع عنهم، في ذلك ودعوى أنه الحق الذي لا محيض عنه. وقد ثبت
للعلماء جميعاً أن الفلاسفة اليونانيين وقعوا في الكفر لثلاثة أسباب، في مقدمتها،
قولهم بالقدم النوعي للعالم. ولا يرتاب مسلم أن الكفر بدعوى قدم العالم، أو بدعوى
وجود قوة مودعة في الأشياء بها يتم التأثير، ليس أقل خطورة وجلاء من الكفر
الذي تتضمنه عبارات واردة في كلام ابن عربي.
ولكنا مع ذلك لم نجنح، لهذا السبب، إلى تكفير ابن تيميه ولا إلى تضليله،
بل انطلقنا إلى النظر في ذلك من تحكيم القواعد الشرعية ذاتها، فلقد لاحظنا الأمر
ذاته الذي لاحظناه في كتب الشيخ ابن عربي -رحمه الله- إذ رأينا لابن تيمية كلاماً
آخر في أكثر من موضع يناقض كلامه الباطل الذي أيّد فيه الفلاسفة في ضلالهم
الذي كان سبباً من أسباب كفرهما، بحيث لو أردنا أن نردّ على ابن تيمية هذا
الباطل الذي تورط فيه، لما وجدنا كلاماً نرد به عليه، خيراً من كلام ابن تيمية
ذاته الذي كرره في عدة مناسبات أخرى.
فاقتضانا ذلك أن نَعْرِفَهُ بالحق الذي تكرر في كتبه وكلامه، لا أن ننعته
بمقتضى الكلمات الباطلة التي دار بها قلمه أو تحرك بها مرة لسانه. ومهما كان
السبيل إلى حسن الظن بأهل القبلة ميسراً، فهو الواجب الذي لا محيد عنه، وما
أيسر أن تزاح العبارات المشكلة عن السبيل إلى ذلك بأنواع من التأويل والاحتمال.
وإذا كان لابد من تأويل العبارات الباطلة لتتحول إلى حق فنحافظ بذلك على حسن
ظننا بصاحبها، أو من تأويل كلامه الحق ليتحول إلى باطل، فنجعله معتمدنا في
إساءة الظن به، فإن مما لا يرتاب فيه المسلمون قط أن الواجب هو تأويل الباطل
بما يتفق مع الحق الذي عرف الرجل به لا العكس. لأن حسن الظن هو الأمثل
بحال الرجل الصادق في إسلامه، وهو الذي يقضي به قول الله عز وجل:
] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ [[الحجرات: 12].
وإذا أبى ابن تيمية -رحمه الله- إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالاً
بالكفريات الموجودة في كلامه، والإعراض عن الصفحات الطوال التي تناقضها
¥