لِمَ كل هذه الحملة المرهقة، والمعاناة الناصبة التي يتكلفها الشيخ البوطي؟ لم
هذا الحشد المنظم لهذه الأفكار المضطربة حول تيار لازال يشق طريقه بتصميم
وعزيمة جادة في ثنايا الحياة الإسلامية، وهذا التصميم وهذه العزيمة تناسب
الصعوبات المبثوثة في طريقه، وعلى الرغم من هذه الصعوبات فإن المؤمنين بهذا
التيار يعتقدون أن أمره جد، لأنه دين، وأنهم بهذا الاعتبار ليسوا ثلة قليلة منعزلة،
ولا جماعة مشاغبة همها التفريق - كما يحاول الشيخ البوطي أن يصوره - بل
جموع جرارة متعطشة إلى عودة الإسلام ليظلل حياة الناس من جديد.
إن المسلمين في كل البقاع ملوا من اللافتات التي ترفع باسم الإسلام هنا
وهناك، وضاقت صدورهم بالإسلام «الرسمي» الذي قيد بالقيود والسلاسل
والأغلال، الذي يقدم إليهم على أنه هو الإسلام الذي أنقذ به الله البشر، وصموا
آذانهم عما يلق عليهم من فتاوى هذا الإسلام «الحكومي»، وفروا إلى تاريخهم
وسير رجالهم لعلهم يجدون فيها شيئاً من السلوان عن هذا الظلام المخيم، فهل
وجدوا السلوى؟
نعم وجدوا .. فإن قراءة فكر ابن تيمية تكشف عن رجل كانت حياته وأفكاره
تمثيلاً لقضايا المسلمين المصيرية، وشرحاً عملياً ونظرياً لقوة ونصوع الإسلام؛
وللعقبات والصعوبات التي تعترض سبيله لينتشر ويسود. بل وجدوا فيه أكثر من
ذلك؟ وجدوا فيه رجلاً عاش عصره وتفاعل مع مشاكله تفاعل المعتز بدينه،
الواثق به، على رغم كل المصاعب، وتصدى لجبهات كثيرة، فما طأطأ لها رأساً،
ولا لانت له قناة. هذه الجبهات التي قد يبدو التصدي لها لبعض الناس - ومنهم
علماء - أمراً لا طائل تحته، ولا ثمرة منه غير التعب الذي يجني على صاحبه
ويسيء إليه. ولكن تصدي ابن تيمية لها بهذه الروح من أبرز بواعث الحياة في
حقل الدعوة الإسلامية فيما بعد عصره إلى اليوم. وذلك لأن مقصود هذه الجبهات
في حربها للإسلام واحد وهو تغييبه عن مسرح الحياة، أو تحييده وتجميده على
الأقل. بل إن ذلك هو أوضح دليل على وحدة المنهج الفكري والتطبيقي عند ابن
تيمية، فالسلبيات التي تعترض سبيل الإسلام يجب أن تبين أصولاً وفروعاً،
وأعداء الإسلام التاريخيون ينبغي أن يرشد المسلمون إلى أساليبهم ومواصفاتهم،
دون مواربة ولا مداهنة. والبدع التي طرأت على مسيرة المسلمين لابد من كشف
جذورها، ومصادر حياتها، وأخطارها، دون غمغمة ولا مجاملة.
صورة التيار السلفي عند البوطي:
يرى البوطي أتباع هذا التيار أنهم مجموعة تحاول اختلاق مذهب جديد
والانغلاق عليه. وأنهم جماعة تريد تفريق كلمة المسلمين، بل وتصد عن الإسلام،
وأن كلمة «السلف» تضم الصالح والطالح، ولم تعرف هذه الكلمة، ولم يستخدمها
المسلمون للدلالة على جماعة لها مواصفات معينة. «كيف ولو أنهم عبروا عن
كينونتهم الجماعية ووحدتهم المذهبية بهذا الشعار إذن لدخل معهم في تلك الكينونة
الجامعة سائر تلك الفرق الجانحة عن الحق الشاردة عن كتاب الله وسنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، إذ إنهم جميعاً (أي الفرق الجانحة عن الحق) مصبوغون
بصبغة هذا الشعار، سواء انتموا أم لم ينتموا إليه (هكذا بالإكراه!)، بل إنهم
السلف أنفسهم لا المذهب الذي ينتمي إليهم (يا ناس!)، فهم بكل فئاتهم وأشتاتهم
أصل هذا المذهب وجذوره، دون أي تفريق بين مهتد وزائغ، وبين صالح
وطالح» [1].
ويرى أن ظهور شعار «السلفية» كان في مصر إبان الاحتلال البريطاني
لها، وأيام ظهور حركة الإصلاح الديني التي قادها وحمل لواءها كل من جمال
الدين الأفغاني ومحمد عبده، ثم استحلى أتباع (المذهب الوهابي) هذا الشعار؛ لما
بين أتباعه وبين حركة الأفغاني ومحمد عبده من قاسم مشترك! وهو لا ينسى أن
يعرض بدعوة محمد بن عبد الوهاب مدعياً «بأن ينبوع مذهبه - بكل ما يتضمنه
من مزايا وخصائص - يقف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب»، وهي عبارة
ملتوية لو طولب البوطي بشرحها لدار وناور، ولكان له موقف منها حسب هوى
من يكلمه فيها.
ويرى أن ضيق وتبرم أتباع ابن عبد الوهاب بكلمة (الوهابية) جعلهم
يستبدلون كلمة (السلفية) بها، ليوحوا إلى الناس بأن أفكار هذا المذهب لا تقف عند
محمد بن عبد الوهاب، بل ترقى إلى السلف، وأنهم في تبيينهم لهذا المذهب،
¥