كانت سائدة في عهد المماليك، ثم عهد الدولة العثمانية يحصرون هذا المصطلح
بأتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن تأثر بها، وبأفكار شيخ الإسلام ابن
تيمية وتلميذه ابن القيم.
أما «السلفيون» أنفسهم الذين كرّس البوطي جهاده ضدهم، فلا يرون أنهم
يخترعون ويبتدعون مذهباً جديداً، وإنما يقولون: إن هناك تياراً لازال موجوداً منذ
عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا هذا، يعتمد جعل الكتاب والسنة
وإجماع الصحابة المنهج الذي يجمع المسلمين كافة، وهذا المنهج كان واضحاً كل
الوضوح في عصر الصحابة والتابعين، وهو المنهج الذي سار عليه أكابر علماء
الأمة فيما بعد ذلك، وقد عكر على هذا المنهج مؤثرات غريبة عنه تسللت بأسباب
وأساليب شتى، وما زال الأمر كذلك، حتى ظهور مدرسة ابن تيمية وتلاميذه التي
أحدثت هزة عنيفة في ذلك الوقت، وعلى الرغم من وقوف الحكومات وعلماء
السلطة في وجه هذه المدرسة وعملهم المستميت في كبت صوتها، إلا إن القوة التي
تميز بها هذا الصوت لم تتلاش ولم تندثر، بل بقي الصدى يتردد هنا وهناك، ولا
نرى حاجة في تفصيل أسباب ذلك وآثاره هنا، بل نقول: إننا نرى الجهود التي
تصدت لمنهج ابن تيمية في السابق هي هي الجهود التي تحتشد لاجتثاث هذا المنهج
من حياة المسلمين، ولكن هل يمكن ذلك؟ هذا سؤال متروك لأصحاب هذه الحملة
ليجيبوا عليه بالقول الصريح، أو بالفعل المقنع.
وأتباع هذا المنهج لا يدعون العصمة، كما أنه إذا بدا في سلوك بعضهم ما
يغضب غيرهم؛ فماذا في ذلك؟ إن من طبيعة النفس البشرية أن يضيق صدرها
بما يخالف ما هي عليه، والإنسان عدو ما يجهل، وكذلك فإن الخطأ والظلم من
هؤلاء ممكن ومتصور؟ أليسوا بشراً؟ وقد قال الله عز وجل:] إنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا
الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [[الأحزاب 72].
وإنه «ما من طائفة إلا وفي بعضهم من يقول أقوالاً ظاهرها الفساد. وهي
التي يحفظها من ينفر منهم، ويشنع بها عليهم، وإن كان أكثرهم ينكرها ويدفعها» [9]
وهذا ما فعله الشيخ البوطي عندما استضافته «رابطة العالم الإسلامي» عام
1406 هـ شاكى هو، وكثير من ضيوف الرابطة الذين جاءوا من أوروبا
وأمريكا وآسيا وإفريقيا، تشاكوا بمرارة وأسى مشكلة وحيدة هي الخلافات
والخصومات الطاحنة (!) التي تثيرها بينهم جماعة السلفية [10]! هذا ولعله من
رحمة الله بالمسلمين، ومن فضله وستره على السلفيين؛ أننا منذ ذلك التاريخ
المشار إليه - وهو تاريخ حضور الشيخ البوطي لذلك الموسم الثقافي الذي دعت
إليه «رابطة العالم الإسلامي» - لم نسمع بعدها عن شيء مما أشار إليه الشيخ
والشاكون إليه، فها نحن منذ عام 1405هـ وإلى الآن - قرب نهاية عام 1411
هـ - نعيش في بلد أوربي فيه عدد لا بأس به من المسلمين من مختلف الأصقاع
والمشارب، لم نسمع عن شيء من هذه «الخلافات والخصومات الطاحنة» التي
يتقلب البوطي منها على مثل جمر الغضا .. ! وهل على أحد لوم إذا ما ذكرته هذه
العبارة «الطاحنة» بأبيات زهير التي يصف فيها الحرب من معلقته:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً وتَضرَ إذا ضرَّيتموها فَتَضْرَمِ
فَتَعرُكُكُم عَرْك الرحى بثِّفالها وتَلْقَحْ كَشافاً ثم تُنْتَجْ فتُتْئِم
وقبل أن نضع القلم نحب أن نتوجه بكلمتين إلى شيخنا البوطي.
الكلمة الأولى:
في الناس من يقرأ لابن تيمية ولغيره، وفيهم من له عقل يستطيع أن يميز
بين السقيم والسمين، وبين النافع والضار، وهذه كتب العلم لم تزل مبذولة تشهد
على كاتبيها، وقد أصبحت منتشرة أكثر والوصول إليها أسهل بحمد الله؛ فمن يا
ترى من العلماء يرشح لنا الشيخ البوطي حتى نتخذ منه نافذة نطل بها على تراثنا
الإسلامي العظيم نقلاً وعقلاً وفهماً واستنباطاً، ومن كتب في مناحٍ المسلمُ أحوج ما
يكون إليها في هذا العصر الهائج المائج؟
سيقول الشيخ: وهل تدعون أن أحداً من العلماء أحاط بكل ما يحتاجه
المسلمون، وأجاب عن كل تساؤل يعرض لهم؟ إذا كنتم تدعون ذلك فقد أبعدتم
¥