وأما إذا قال السائل: بحق فلان وفلان، فأولئك إذا كان لهم عند الله حق ألا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم ـ كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه ـ فليس فى استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن ذلك استحق ما استحقه بما يسره الله له من الإيمان والطاعة. وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك. فليس فى إكرام الله لذلك سبب يقتضى إجابة هذا.
وإن قال: السبب هو شفاعته ودعاؤه فهذا حق، إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب.
وإن قال: السبب هو محبتى له وإيمانى به وموالاتى له، فهذا سبب شرعى، وهو سؤال الله وتوسل إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله، وطاعته لله ورسوله، لكن يجب الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله: فمن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه، وأما من كان الله تعالى أحب إليه مما سواه، وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له، فحبه لله تعالى هو أنفع الأشياء، والفرق بين هذين من أعظم الأمور.
فإن قيل: إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين ـ تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته، وهذا أعظم الوسائل، وتارة يتوسل بذلك فى الدعاء كما ذكرتم نظائره ـ فيحمل قول القائل: أسألك بنبيك محمد، على أنه أراد: إنى أسألك بإيمانى به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيمانى به ومحبته، ونحو ذلك، وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع. قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب فى ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف ـ كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره ـ كان هذا حسنا، وحينئذ فلا يكون فى المسألة نزاع. ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر.
وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس فى زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ.
فإن قيل: فقد يقول الرجل بغيره: بحق الرحم، قيل: الرحم توجب على صاحبها حقا لذى الرحم، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] وقال النبى صلى الله عليه وسلم: (الرحم شَجْنَةٌ [شَجْنَة: أى قرابة مُشْتبِكة كاشتباك العروق. انظر: النهاية فى غريب الحديث 2447]، من الرحمن، من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وقال: (لما خلق الله الرحم تعلقت بِحَقْوِ الرحمن وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت)، وقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته).
وقد روى عن علىٍّ أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه، أعطاه لحق جعفر على عليَّ. وحق ذى الرحم باق بعد موته، كما فى الحديث: أن رجلا قال: يا رسول الله، هل بقى من بر أبوى شىء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم، الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التى لا رحم لك إلا من قبلهما)، وفى الحديث الآخر ـ حديث ابن عمر ـ: (من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى). فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره.
ـ[محمد رشيد]ــــــــ[03 - 12 - 04, 01:41 ص]ـ
بارك الله تعالى في الإخوة الكرام، و هكذا اتضحت صورة المسألة شيخنا الفاضل الفقيه، بارك الله تعالى فيك
ـ[أبو خالد السلمي.]ــــــــ[03 - 12 - 04, 03:44 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
وأضيف إلى ما ذكره مشايخنا الأفاضل مايلي:
1) مما يستثنى من حكاية الإجماع أيضا الحلف ببقية الأنبياء ففي مذهب أحمد قول بجواز الحلف بالأنبياء جميعا وليس فقط بنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وإن كان هذا القول ضعيفا لمخالفته النصوص، ولكن القصد أنه لا إجماع.
2) قراءة والأرحام بالجر لم ينفرد بها حمزة بل ثبتت عن الأعمش وعن جعفر الصادق وغيرهم، وورد في الكامل للإمام الهذلي أن كلا من حمزة والأعمش سئل عن قراءة الجر فقال هكذا أقرأني فلان عن فلان ويسوق سنده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
3) قال الفخر الرازي: يمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون أسألك بالله و الرحم و حكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل.اهـ مفاتح الغيب 9/ 164 ونحوه جواب ابن كثير في تفسيره أنه إخبار عن شيء يفعلونه لا يلزم منه تجويز ذلك
4) من الشواهد القرآنية على جواز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور بدون إعادة الجار قوله تعالى (و جعلنا لكم فيها معايش و من لستم له برازقين)، فكلمة (من) في موضع خفض عطفا على الضمير المخفوض في (لكم)، قال ابن مالك:
و عود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازما قد جعلا
و ليس عندي لازما إذ قد أتى في النثر و النظم صحيحا مثبتا
¥