تحكي الآية ظلم المنافقين لأنفسهم، وعقّبه استغفارٌ ومجيء له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لطلب الإستغفار، والمجيء في الآية لا يكون للأموات، فلا تقول جئت والدي الميت، بل تقول زرته أو جئت قبره، وهكذا في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فالمجيء إليه بعد الموت ليس مجيء لشخصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، بل هو مجيء لقبره فلا يقال: جئت رسول الله، بل يقال: جئت قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو زرته.
والمقصود في الآية المجيء له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حال الحياة لا الموت، ولو كان المقصود من الآية قبره لأنتفت البلاغة في القرآن، والتي هي إحدى معجزات التنزيل وهذا مطعن لايقول به عاقل، يشهد له قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة 84)، وقوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} (التكاثر 2).
وكل آية جاء فيها ذكر المجيء للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في القرآن يفهم منه أنه حال الحياة، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (النساء 62)، وقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (المائدة 42)، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنعام 25).
ثالثا: استغفار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في القرآن
كل استغفار في القرآن من قِبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، المراد منه استغفار حال الحياة أيا كان نوع المعصية التي يُستغفر منها. مثل:
• استغفاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لذنبه وذنوب المؤمنين، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد 19).
• استغفاره للأعراب، قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} (الفتح 11).
• استغفاره للمبايعات من النساء قال تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة 12).
• نهي الله عزوجل نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الإستغفار للمنافقين وذي القربى من المشركين.
ولا أدل على ما ذهبنا إليه من كون استغفاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حال الحياة، هو: انقطاع إستغفاره بموته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال آية 33)، وفي ذلك قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
(أنزل الله علي أمانين لأمتي {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة).
أخرجه أحمد (4/ 393) بسند حسن، قال: (حدثنا وكيع عن حرملة بن قيس عن محمد بن أبي أيوب عن أبي موسى .. )، والترمذي في التفسير (ح 3082) قال: (حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسمعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة ابن أبي موسى عن أبيه .. ). بسند ضعيف قال الترمذي: "حديث غريب وإسمعيل بن مهاجر يضعف في الحديث". وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (ص 378 ح 596).
¥