قال مقيده عفا الله عنه: فهذا نص صريح ونكتة بديعة غابت عن عقول الطُّرقيّين وأهل الأهواء من الرافضة وغيرهم، وهي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمان لأمته حال الحياة، فإذا مضى إلى جوار ربه كان الأمان الباقي في الأمة هو استغفار أفرادها، وليس مجيئهم إلى قبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لطلب الإستغفارمنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتنبه!
كما يرده تفسير أغلب المفسرين لهذه الآية.
قال إمام المفسرين الطبري رحمه الله في تفسيره (4/ 157): "ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدوا صدودا، إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله، إذا دعوا إليها جاءوك يا محمد حين فعلوا ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت، راضين بحكمه دون حكمك جاءوك تائبين منيبين فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم وسأل لهم الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل ذلك، وذلك هو معنى قوله: (فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول) ".
وإلى هذا التفسير ذهب ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (2/ 583).
والعبرة في الآية عموم اللفظ لا خصوص السبب، قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (الفرقان 77). وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران 17). وقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات 18).
كما بين الحق صراحة حال الظالمين أنفسهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران 135). فليس في هذه الآيات ذكر لإتيان قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لطلب المغفرة أو ترغيب لفعله، مما يدل ويؤكد على أن الإتيان كان حال الحياة.
فهذه الآيات البينات الواضحات صريحة الدلالة في طلب المغفرة والدعاء من الله الغفور لا من أصحاب القبور، كما لم يطلب الحق منا أن نأتي قبر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ونفعل ذلك.
رابعا: استغفار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في السنة
السنة المطهرة ترد هذا المعنى الباطل، وتثبت أن طلب الإستغفار منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حال الحياة الذي هو أحد الأمانين كما مر في ثالثا، وقد ردت عدة أحاديث متواترة المعنى تؤكد وتخصص طلب الدعاء والإستغفار من الباري جل وعلا مبالشرة دون واسطة، منها:
1. حديث ابن عمر 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - قال: (كنت عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذ جاءه حرملة بن زيد فجلس بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا رسول الله الإيمان ههنا وأشار بيده الى لسانه، والنفاق ههنا وأشار بيده الى صدره، ولا يذكر الله إلا قليلا. فسكت عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فردد ذلك عليه، وسكت حرملة، فأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بطرف لسان حرملة فقال: اللهم اجعل له لسانا صادقا، وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحب من يحبني، وصَيّر أمره إلى الخير. فقال حرملة: يا رسول الله إني لي إخوانا منافقين كنت فيهم رأسا أفلا أدلك عليهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: من جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أصر على ذنبه فالله أولى به ولا تخرق على أحد سترا).
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 5). قال الهيثمي في مجمع الازوائد (9/ 410): "رجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ في الإصابة (1/ 320): "إسناده لا بأس به، وأخرجه ابن منده أيضا، وروينا في فوائد هشام بن عمار رواية أحمد بن سليمان بن زبان، بالزاي والموحدة من حديث أبي الدرداء نحوه".
¥