ومحل الشاهد: ماعزا والصحابيتان رضي الله عنهم جاؤا إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حال الحياة، وأيضا قصة الصحابي الجليل كعب بن مالك 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - وتخلفه عن غزوة تبوك، واستغفار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمتخلفين.
أخرجه البخاري (المغازي ح 4418)، ومسلم (التوبة ح 2769).
فهذا كله نقل لنا عن صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حال حياته بالأسانيد الصحيحة، ولم ينقل لنا خلافه عنهم بعد موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولا حتى بسند ضعيف فضلا عن موضوع، كما أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم أذنبوا حال حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يأتوا إليه لطلب استغفاره، وأكتفوا بإستغفارهم.
وحمل قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} على العموم - حال الحياة وبعد الموت - يقدح في اعتقاد الصحابة رضي الله عنهم الذين أذنبوا ولم يأتوا قبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لطلب المغفرة، كما يقدح فيمن بعدهم من علماء الأمة المعتبرين، وعليهم ينطبق قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون 5). وهذا لايقوله عاقل.
سادسا: فهم السلف
قال الأوزاعي رحمه الله: "قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات، ذاك شيء قرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه! قال: فبث فيهم الأهواء". انظر سنن الدارمي (المقدمة رقم 308).
وقال القرطبي (7/ 399): "قال المدائني عن بعض العلماء قال: كان رجل من العرب في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسرفا على نفسه ولم يكن يتحرج، فلما أن توفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبس الصوف، ورجع عما كان عليه وأظهر الدين والنسك، فقيل له: لو فعلت هذا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حي لفرح بك، قال: كان لي أمانان فمضى واحد وبقي الآخر، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، فهذا أمان والثاني: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ".
قلت: وهذا يحتاج إلى سند للحكم عليه، لكن ذكرته استئناسا.
سابعا: لغويا
ترد اللغة العربية وقوانينها هذا الفهم الباطل لأن (إذ) من حروف المعاني ولها أربع حالات:
الأولى: أن تكون إسما للزمن الماضي، ولها أربع استعمالات:
1. أن تكون ظرفا وهو الغالب، نحو قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (التوبة 40).
2. أن تكون مفعولا به نحو قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} الأعراف 86).
3. أن تكون بدلا من المفعول، نحو قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ} (مريم 16).
4. أن يكون مضافا إليها اسم زمان صالح للإستغناء عنه نحو: "يومئذ، وحينئذ"، أو غير صالح له نحو {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آل عمران 8).
الثانية: أن تكون اسما للزمن المستقبل نحو {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة 4). ونحو {إِذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ}. (غافر 79).
الثالثة: أن تكون للتعليل نحو {وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}. (الزخرف 39).
الرابعة: أن تكون للمفاجأة، وهي الواقعة بعد: "بينا، أو بينما"، كقول الشاعر:
استقدر الله خيرا وارضين به فبينما العسر إذ دارت مياسير
انظر مغني اللبيب (1/ 80).
الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
استدل المعترض في رفع المنارة (ص 57) بقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ .. الآية}، على استحباب شد الرحل لزيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال: "وهذه الآية تشمل حالتي الحياة وبعد الإنتقال، ومن أراد تخصيصها بحال الحياة فما أصاب".
¥