تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أمّا الشيخ خالد البغداديُّ هذا الّذي اختلفت الأقلامُ بين طاعن فيه ومدافع عنه، فقد أوردتُ ترجمته في الفصل الرابع ضمن كتاب ألّفتُهُ تحت عنوان (الطريقة النقشبندية بين ماضيها وحاضرها)؛ ولكنّني أرى أن أذكر هنا أيضًا نبذةً من أحوال هذا الشخص الخطير الّذي جاءَ بنظرةٍ روحانية جديدةٍ أشغل بها عقول ملايين الناسِ في عبادة اللهِ منذ قرنين. فحدث بذلك تغيّرُ جذريُّ في عقائد المنتسبين إليه، وانتشرت بدعته خاصّةً بين الأتراك والأكراد على الساحة التركية.

خالد البغداديُّ رجل من أكراد العراق ينتمي إلى العشيرة الميكائيلية القاطنة بضواحي مدينة السليمانية. وُلِدَ البغداديُّ عام 1778 للميلاد، ونشأ في المنطقة نفسها. درس على جماعة من الملالي الّذين جرت العادةُ على تسميتهم بالعُلماءِ وهم في الحقيقة لم يكونوا من العلماءِ. إذ لا شكّ أنّ العلم هَجَرَ أرض المسلمين منذ قرونٍ وحلَّتْ بهم حقبةٌ مظلمةٌ بعد القرن الثالث من الهجرة النبوية عليه السلام ودامت إلى هذه الأونة. بهذا طبعًا لا يجوز إطلاقُ صفة العلمِ على البغداديِّ أيضًا ولا على أحدٍ من الملالي وشيوخ الصوفيةِ. إذ أنّهم طبقة من أهل الرهبنةِ والجهل والعمى، لا حظَّ لهم من العلوم والمعارف والثقافةِ المعتَرَفِ بها في العالَمِ المتحضِّرِ؛ بل كانوا ولا يزالون يدرسون ركامًا من الكتب ذات الورق الأصفر التي حشاها نفر من شيوخ العجم بعباراتهم المعقّدةِ، كتبوها في عصور الظلامِ مثل كتاب العزِّيِّ في الصرفِ وكتاب الإظهار والنتائج وحلّ المعاقد والفوائد الضيائيةِ في النحوِ. وعدد أخر من كتبهم مدوّنةٌ باللغة الكرديةِ مثل كتاب الظروفِ والتركيبِ في النحو العربيِّ. كلُّ هذه الكتب خالية من القيمة العلمية لا فائدة فيها، عباراتها غامضةٌ ومعقّدةٌ، لم ينجح مؤلِّفوها في الأسلوب والتبويب. فضلاً عما حشدوا فيها من شروحٍ وحواشي مطوّلةٍ زادتها غموضًا فحوّلتها إلى ألغازٍ أعيتْ مَنْ تناولها من الطلبة والمدرّسينَ، فأشغلتهم عن الانفتاح الّذي يشهده العالَمُ المتحضِّر وعن الصحو الّذي بفضله قطع جماهير المثقّفين شوطًا بعيدًا في مضمار العلوم والفنون. كما أنّ هذه الكتب غير معروفة في البلاد العربية. والطّامّة الكبرى أن التلاميذ كانوا يحفظون هذه الكتبَ طوال مدة لا تقلّ عن خمسة عشر عامًا. ثم تعود عليهم بالخسران والندم حين يتخرّجونَ وهم غيرُ ذي كفاءةٍ لأيّ عملٍ. لذا منهم مّن يمارس الشعوذةَ، ومنهم مّن يصبح ذيلاً للصوفيةِ طلبًا لرغيفٍ يُشبِعُ به بطنَه.

كان خالد البغداديُّ من أبناء هذه البيئة المتخلِّفَةِ. ولكنّه كان لَبِقًا نشيطًا جريئًا متلوّنًا يتقلّبُ مع الظروفِ بصبرٍ وينسجمُ مع كل مَنْ يرجو منه المصلحةَ ويستغلُّ الفرصة في حينها. ساعدته هذه الطبيعة حتى استطاع أن يحقق جميع أهدافه ويصبح رجلاً مرموقًا يتهافت عليه الآلافُ، وإن كانوا من الأوغاد والرعاعِ. ذلك أن مِنْ واقع الحياة الاجتماعية أن الإنسانَ متى حظي من الشهرة واحتفل به الناسُ وخاصّةً إذا كانوا صادقين في ولاءهم له، هانت عليه صعاب الأمورِ ودانت له الرقاب. هذا ما حصل للبغداديّ حتى طارت شهرته إلى الآفاق. فلم يحتمل لأحد، حتّى للعلماء أن يدققوا النظر في دعوته الجديدة، عَمَّا إذا تُوَافِقُ أصولَ الدّيِنِ أم هي بدعةٌ أو سلسلةٌ من معتقداتِ الديانة البوذية والهندوكيةِ!

كان خالدٌ ماهرًا في استمالة قلوب الناسِ والتحكّم في رقابهم. نَجَحَ بذلك في جمعِ نُخْبَةٍ من رجالاتِ الأكرادِ تحت زعامته، ونفذ إلى قرارة نفوسهم بسحره حتّى غدوا عبيدًا يعكفون على أعتابه وهو يسيطر على نفوسهم وعقولهم بعد أن عوّدهم على صلاة الرابطةِ وهي شطرٌ هامٌّ من طقوسهم، ومبدأٌ أساسيٌّ تقوم عليه هذه الطريقةُ الصوفيةُ اقتبستها من الديانة البوذيةِ. يكمُنُ سرُّ الطريقة النقشبندية في هذا المبدأ الخطير الّذي يجعل من المريد عبدًا ذليلاً أمام شيخه، مُتَفَانيًا فيه، يطيعه في كلِّ ما يأمره، ولو كان محرَّمًا بنصِّ الكتابِ والسُّنَّةِ!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير