ثمّ بعد كلّ هذه المقدّمات والتعليلات، والحُكْمٍ على عبد الوهّاب، والإجابةِ على سؤالٍ مفروض بأنّ» القاعدةَ الّتي عليها التّعويل بين أهل التفريع والتأصيل: أنّ الجرح مقدّمٌ على التعديل «.
سلك ابنُ عابدين نفسُهُ خلاف هذه القاعدةِ بحجة:» أنَّ هذه في غير مَن اشتهرت عدالته وظهرت ديانته، وفي غير مَن عُلِمَ أنّ التّكلُّمَ فيه ناشئٌ عن عداوةٍ ... إلخ «. (ص/12)
ثمّ انتقل ابنُ عابدين بعد ذلك إلى شرح أمورٍ متعلّقةٍ بموضوع الطعن فقال:» ولنشرح لك هذا المقالَ تتميمًا للمرام في أربعةِ فصولٍ «. (ض/14)
» الفصل الأوّل: في بيان حقيقة الكرامة «
» الفصل الثاني: في بيان حقيقة الجنّ والفرق بينهم وبين الشياطين، وجواز رؤيتهم والاجتماع بهم «
» الفصل الثالث: في بيان السحر وأقسامه وأحكامه ... «
» الفصل الرابع: في بيان دعوى علم الغيب إلى آخره ... إلخ «
وربما يكون ابنُ عابدين قد أصاب في توضيحاته الّتي أوردها ضمن الفصول الثلاثة الأولى، وقد بذل جهدًا بالغًا في الكشف عن أسرار مفهوم الكرامةِ والسحرِ والاستدراج وأمثالها من الخوارق. ولله درّه في شرح مسائلها وبيان الفوارق الموجودةِ بينها. ونقل ما يتعلّق بها من آياتٍ وأخبارٍ وآراءٍ للعلماءِ. كذلكَ حسنُ ترتيبه لهذه الفصولِ وتبويبه لكلّ مسألةٍ على حدةٍ، وأسلوب استدلاله. كلّ ذلكَ جدير بالتقدير مما يدلّ على معرفته الواسعةِ وباعه الطويل في مختلف العلومِ. ومع هذا المستوى الرفيع والعقل الراجح والحرص المتزايد في استنباط الحقائق فقد انثنى ابنُ عابدين عن منهج العلماء المحقّقين عندما تدخّل في دعوى علم الغيب. فعلى الرغم من وجود النصوص القاطعةِ في كتاب الله بأنّه وحده تعالى منفرد بعلم الغيبِ» وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُو «. (الأنعام59).» قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُون «. (الأنعام/50).» قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون «. (الأعراف/188).
فقد أغضى ابنُ عابدين عن كلّ هذه البراهين القاطعةِ وتكلّف في تأويل الآية الكريمة:» فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ «. (الجن/26 - 27)، وتمسّك بالقيل والقال بُغْيَةَ أن يُشْمِلَ هذه الآيةَ على غير الرّسلِ من البشر من أولئك الّذين يحظون الشهرةَ بِالْتِفَافِ الرَّعَاعِ حولهم، وبإطلاقِ بعض الناسِ صفةَ الولايةِ عليهم وإن لم يدعوها لأنفسهم.
ثم أنهى ابن عابدين رسالته هذه» بخاتمة مشتملة على نبذة يسيرة «وليست بيسيرة في الحقيقةِ وذلك» عن بعض العلماء الأعلامِ من معاصري هذا الإمام الذين شهدوا له بالفضل التامّ وبأنّه من العلماءِ العاملين والأولياء الكرام «على حدّ قوله وطبقا لذوقه السقيم وعقله المتخلّف القديم، فلا يستحق أن نهتمّ به لبساطة إطلاقه وخلطه ومراوغته ومجازفته ...
أمّا بعد هذه الدراسة السريعة لرسالة ابن عابدين المسماة» سلّ الحُسام الهندي ... «، فأقول مستعينًا بالله سبحانه على سبيل الإيجاز: أنّ في هذه الدراسة أمورًا بجب الوقوف عليها بامعانٍ وتحليلها في ضوء الكتاب والسنة:
أوّلها: أنّ ابن عابدين –غفر الله لنا وله- قد دوّن هذه العجالةَ ردّا على شخصٍ اسمُهُ عبد الوهّاب، ولم نعثر على شيءٍ من آثارِهِ إلاَ ما ذكرناه. وتَجِبُ الإشارةُ هنا إلى أنّ عبد الوهّاب هذا الرجل المستهدف ليس هو محمد بن عبد الوهّاب (1703 - 1792م.) الزعيم النجدي الذي تُنسَبُ إليه الطائفة الوهّابيةُ، تفاديًا للاشتباه.
¥