تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[مراعاة ما جرى به العمل]

ـ[أبو عبدالله النجدي]ــــــــ[03 - 11 - 04, 01:10 م]ـ

[مراعاة ما جرى به العمل]

ـ توطئة:

تعجب كثيراً حين تقرأ، أو تستمع إلى فتاوي بعض طلبة العلم الصغار، حيث لا يكاد يفتي إلا بخلاف ما جرى به عمل العلماء في إقليمه مع كون هؤلاء المخالفين: شبَبَةً لم ترسخ لهم قدم.

فيقعون فيما يشبه " الشذوذ " أجارنا الله!

ومن المهمات التي يحسن بالمتصدي للفتيا ألاَّ يهملها، أن يستهدي بما أفتى به من قبلَه من علماء البلد في الاجتهاديات، وهو ما يطلق عليه " ما جرى به العمل "، وكثيراً ما نجد في كتب الفقه قولهم " وبه جرى العمل "، أو " وعليه العمل "، أو " وعليه الفتوى "، أو " وعليه عمل الفقهاء "، ونحوها من العبارات.

وطريق العلم بذلك أن يكثر من الاطلاع على كتب الفتاوي، مما أجاب عنه علماء عصره ومصره، فلله كم في تلك الدواوين من كشفٍ لملتبِس، وفسْرٍ لمبهم، وإيضاحٍ لمشكل.

فمثلاً: في بلادنا ينبغي ألا يفتي إلا بعد أن ينظر في فتاوي اللجنة وابن باز وابن عثيمين وغيرهم ـ رحم الله جميعهم ـ إذ في بعض العُضَل من المسائل لا يكاد يستقيم للناس إلا ما أفتى به الكبار، " وإن كان مرجوحاً من جهة الصناعة الفقهية ".

ولا يفهمنَّ أحدٌ من كلامي هذا " الحجر " على طالب العلم أن يرجح في الاجتهاديات ما يظهر له دليله، فهذا شيءٌ، والإفتاء على العموم شيءٌ آخر، حيث " يراعى في الإفتاء ما لا يراعى في البحث العلمي المجرد ".

ومن يتتبع فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ وتقاريره، يلحظ عنايته بالتزام ما جرى به عمل المفتين في البلد، وحثه على الدوام على ذلك، ولو كان مرجوحاً [فتاوي ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (2/ 19)]، وفي بعض تقاريره يشتد الشيخ على من يفتي بجواز مسِّ المحدث للمصحف (مثلاً)، والحال أنه " أطبقت فتاوي علماء نجدٍ على المنع منه "، وهم " أئمة محققون "، ويرى أن هذا خلافٌ " غير مقبول " في هذه البيئة المعينة، حتى ولو كان القول المعمول به مرجوحاً، لما في المخالفة من مفسدة " زعزعة فكرة الناس " [الموضع نفسه]، وينعي الشيخ على بعض العلماء في البلدان، الذين يكثر لديهم تغيير الفتيا، حتى لا يستقر العمل لديهم على شيء [المرجع السابق؛ الموضع نفسه، وانظر أيضاً: (2/ 22) منه].

والذي يظهر من اصطلاح الفقهاء في عبارة " ما جرى به العمل " هو: أن يشتهر قولٌ من الأقوال الفقهية، في قطر من الأقطار، ويتتابع أهل العلم فيه على الأخذ بذلك القول، من غير نكير بينهم، حتى يصير ذلك بينهم عرفاً علمياً مستقراً.

ولعله يمكن أن نجد لهذا النوع من الاستدلال أصلاً في عمل أهل الفتيا قديماً وحديثاً، حيث يعبرون بقولهم: " هكذا أدركنا علماءنا يفعلون "، إذ هو يشبه أن يكون نوعاً مما يسميه الأصوليون: "الاستصحاب المقلوب"، ومعناه: استصحاب الحال الحاضر في الماضي، وهو عكس الاستصحاب المعروف، الذي هو: استصحاب الماضي في الحاضر.

مثال المقلوب: ما إذا وقع البحث في أنَّ هذا المكيال مثلاً هل كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فيقول القائل: نعم، إذ الأصل موافقة الماضي للحال [انظر: الإبهاج؛ للسبكي (3/ 170)، الأشباه والنظائر؛ للسيوطي (76)].

وأصلٌ آخر: وهو أن ذلك من باب " تحديث الناس بما يعرفون "، لئلا " يُكذَّب الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".

وكم تسمع من العوام قولهم: هذا دينٌ جديد، يقولون هذا في مسائل مشهورة، بل ومعلومةٌ للكافة أحياناً، فكيف بالشذوذات، عافانا الله!

من مؤيدات ما جرى به العمل:

لا شك أن استقرار قولٍ ما لدى علماء بلدٍ من البلدان، واتساق العمل به بينهم على نحو مطرد، لا بد له من مرور مدة من الزمن طويلة، يكتسب خلالها رسوخاً وتنقيحاً واطراداً. فإنَّ الأقوال الضعيفة والمرجوحة غالباً ما تنكشف، وتستغلق على المكلفين، بمجرد إنزالها على الوقائع، ووضعها على محك التطبيق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير