تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

مات خالدٌ عام 1826 للميلاد وهو نَادِمٌ على ما جاء به من البدع، وألفاظه شاهدة على هذه الندامة إذ يردّد الآية الكريمة {يَا حَسْررَتىَ عَلىَ مَا فَرَّطْتُ فيِ جَنْبِ اللهِ ... } قُبيلَ أن يلفظ أنفاسَه الأخيرةَ. ولعلّ مَن يقول معترضًا أن كلَّ مؤمن يحظى من الصحوة الإيمانيةِ، لا بدّ وأن يُكثر من الاستغفارِ وأن يُظهِرَ الندامةَ وهو على الرمق الأخير. هذا كلام صحيح لا شكّ فيه. ولكنه لا يصلح أن يُحتَجَّ به لإبراء ساحةِ خالد. لأنّه بالذّات يعترف في وصيته بسلبياتٍ صدرت منه على سبيل الإيجاز وهو مضطرٌّ للاختصارِ آنئذٍ حتمًا في تلك الظروف الخطيرة التي حلّت به إذ كان قد أصابه الطاعون، والله سبحانه أعلم به أنه لو كان على كمال الصحّةِ لربما اعترف بأضعافِ ذلك. وهذه كلماته الأخيرة:» لا تزيدوا التكايا عما في عهدي. ومن أراد الإحداث فليعمّر جامع العدّاس «. فقولوا بالله، أيُّ شيخٍ من شيوخ الطرق الصوفيةِ أوصى حتّى الآن بمثل هذا الأمر، ونهى أصحابه عن أن يزيدوا في عدد التكايا؟! هذا أمرٌ لا يستقيم مع المنطق السليم. إذ أنّ النهيّ عن إقامة التكايا معناه النهي عن ممارسة طقوس الصوفيةِ. وهذا قد صدر عن خالد البغدادي بصراحةٍ بالغةٍ من خلال كلماته المنقولة آنفًا. والله تعالى غنيٌّ عن عذابه وعذابنا، كما نَتَمَنَّى أن يشملنا جميعًا غُفْرَانُهُ، إلاَّ أنَّ تأثيرَ هذا الرجل لا يزال يوجّه ملايين الناس في ازدياد التكايا، وإصرَارِهِمْ على بِدَعِهِ، فضلاً عن الاضطهاد الذي يمارسه أنصارُ طريقتِهِ ضد المؤمنين الحنفاءِ في تركيا اليوم.

وعلى ضوء ما أوردتُ في هذه العجالة من معلومات هامّةٍ أريد أن أختتم كلامي بنبذة من الوصايا للقرّاءِ الكرام، وخاصّةً منهم القائمينَ بإرشاد الناسِ أن يلتزموا جانب الحيطةَ في ثلاثة أمور:

أوّلها، أن يتمسّكوا بمذهب السلف الصالح في التعامل مع كتاب الله العزيز. وأمّا مذهبُ السلف، فهو تركُ التأويل، وعدمُ المبالغة في التفسير، والتفويضُ إلى الله تبارك وتعالى في المتشابهات بلا تعطيل. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْويِلَهُ إلاَّ اللهُْ ... }. إنّ الاقتحام في هذا الأمر عدول عن جادّة الصوابِ، كما لا يخفى تمييع أهل التأويل للعقيدة الحنيفةِ ممّا أسفر ذلكَ عن مُعتَقَدَاتٍ باطلةٍ افتتنتْ بها الناسُ وتغذَّت بها النفوس المريضةُ، وقامت على أساسها فِرَقٌ بَاطنيةٌ وأحزابٌ شريرةٌ ضربت الإسلامَ من الدَّاخلِ. ولا يزال المسلمون في شتاتٍ واختلافٍ وتناحُرٍ من جرّائها.

أمّا ثانيها، أن يحذّروا المسلمين من مخالطة الصوفيةِ الّذينَ يظهرون للناسِ في لباس الزهدِ والتّقوىَ، وهم في الحقيقة زائغون عن المنهج الّذي رسمه الله لعباده بأن لا يسلكوا غيره في العبادةِ له تعالى. ولكنّهم أَبَوْا إلاَّ أنْ يخالفوا هذا المنهج، فاختلقوا من تلقاءِ أنفسهم أشكالاً غريبةً من المناسك والتعبّدِ وربما اقتبسوها من طقوس المشركين واليهود والنصارى أسوةً بعبدة الأوثانِ، وتقرُّبًا إلى اللهِ بما يُسخِطُهُ، ورهبانيةً ابتدعوها ما كتب الله عليهم، وما أنزل الله بها من سلطان.

إلاَّ أنّ الأمرَ لا ينبغي أن يكونَ مجرّدَ تحذيرٍ من منطلقِ الحقدِ عليهم والبغض لهم، لأنّ ذلك يثيرهم، فلا يجدي بما هو المطلوب. إذ ليس من المعقول أن يُرجى هدايةُ من يُكرَهُ على الطاعةِ ولو كانت الدعوة إلى الحقِّ الّذي لا مريةَ فيهِ. لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم. (البقرة/256). وقد يكون التشدّد في الدعوة سببًا لتطوُّر الخلافِ بين أصناف الناسِ. إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين. (القصص/56). ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين. (النحل/125). لأنّ التشدّدَ في الدعوةِ ربما يؤدّي إلى تفاقم الفتنةِ والشغبِ، والفتنة نائمةٌ يحرم إيقاظها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير