" لأن الرمي في اليوم الرابع يجوز تركه أصلا، فمن هذا الوجه يشبه النوافل، والتوقيت في النفل لايكون عزيمة، فلهذا جوز الرمي فيه قبل الزوال، ليصل إلى مكة قبل الليل "
وقد ذكر الجصاص وجها آخر، يستدل به لأبي حنيفة ومن وافقه ـ رحمهم الله ـ فقال: ـ
" وقال أصحابنا: ـ إنه إذا لم ينفر حتى غابت الشمس، فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث، ولايلزمه ذلك إلا أن يصبح بمنى، فحينئذ يلزمه رمي
اليوم الثالث، ولايجوز تركه، ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن من أقام بمنى إلى اليوم الثالث، أنه لايجوز له النفر حتى يرمي، وإنما قالوا: ـ إنه لايلزمه رمي اليوم الثالث بإقامته بمنى إلا أن يمسي، من قبل أن الليلة التي تلي اليوم الثاني هي تابعة له، حكمها حكمه، وليس حكمها حكم الذي بعدها، أَلا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الأول رَمَاهُ فِي لَيْلَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُؤَخِّرًا لَهُ عَنْ وَقْتِهِ؟ لأَنَّهُ عليه السلام (رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلاً) , فَكَانَ حُكْمُ اللَّيْلَةِ حُكْمَ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهَا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا حُكْمَ
الَّذِي بَعْدَهَا ; فَلِذَلِكَ قَالُوا: إنَّ إقَامَتَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِمِنًى إلَى أَنْ يُمْسِيَ بِمَنْزِلة إقَامَتِهِ بِهَا نَهَارًا , وَإِذَا أَقَامَ حَتَّى يُصْبِحَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَزِمَهُ الرَّمْيُ بِلا خِلافٍ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَجْوِيزِهِ
رَمْيَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ ; إذْ قَدْ صَارَ وَقْتًا لِلُزُومِ الرَّمْيِ , وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِوُجُوبِهِ ثُمَّ لا يَصِحُّ فِعْلُهُ فِيهِ ".
ودليل أبي حنيفة هنا هو ما يسمى عند الأحناف بدلالة النص
وقد صرح بأن دليل أبي حنيفة فيها دلالة النص، إرشاد الساري نقلاً عن أخواجان،: ـ
" وإنما أجازه في اليوم الرابع بدليل دلالة النص لا بالقياس "
وبيانه كالتالي: ـ
المنطوق به: ـ جواز ترك اليوم الثالث كله، لقوله تعالى: ـ " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " ومنه ترك الرمي.
المسكوت عنه: ـ جواز ترك رمي الجمار فيه.
فيكون جوازه في جميع الأوقات قبل الزوال أوبعده أولى من جواز تركه كلية.
ومنهم من ذهب إلي أن دليل أبي حنيفة هنا الاستحسان، كالبابرتي في العناية على الهداية، حيث قال: ـ
" وإن قدم الرمي في هذا اليوم ـ يعني اليوم الرابع ـ قبل الزوال بعد طلوع الفجر، جاز عند أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ وهذا استحسان "
وقال السرخسي: ـ " وإن صبر إلى اليوم الرابع، جاز له أن يرمي الجمار فيه قبل الزوال استحسانا في قول أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ "
ونقله عنه صاحب القري فقال: ـ
" وقال أبو حنيفة يجوز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال استحساناً "
المذهب الثالث: ـ
جواز رميها قبل الزوال ولا ينفر إلا بعده، وبهذا قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في رواية وإسحاق وأصحاب الرأي، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، حيث قال: ـ
" إلا أن إسحاق وأصحاب الرأي، رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال، ولا ينفر إلا بعد الزوال، وعن أحمد مثله، ورخص عكرمة في ذلك أيضا "
وقال الخرقي: ـ
" والرواية الثانية: ـ إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال، أجزأه ولاينفر إلا بعد الزوال "
وعلى كل حال فالقول بالجواز في اليوم الثالث أقوى من اليومين السابقين، لاسيما أنه اتفق على جواز تقديم الرمي فيه على الزوال إمامان جليلان، وهما الإمام أحمد والإمام أبو حنيفة ـ وإن اختلفا في وقت النفر ـ مع من قالوا بالجواز مطلقا، ومعهم على ذلك أدلة قوية، كدلالة النص التي استدل بها الحنفية، أو الاستحسان على قول بعضهم، وإن كان الأحوط أيضاً الخروج من الخلاف كما سبق وبيناه، فلا يلجأ إليه إلا عند الحاجة، وسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحب إلينا.
** المبحث السابع **
** اقتراحات **
لفعل الأحوط خروجا من الخلاف، وتجنبا للزحام.
الاقتراح الأول: ـ
¥