فهذه تنبيهات مهمة على بعض مايتعلق بدعاء القنوت في الوتر من أمور كثر السؤال عن بعضها، وانتشر بعض آخر، ولم نعرف له أصلا، فما رأيناه في الوارد، ولا سمعنا أنه فيه، بعد التحري والاستقراء، وقد دعت الحاجة إلى بيانها، لاسيما والقنوت عبادة جهرية، حين يدعو الإمام جهرا، ويؤمن على دعائه المأمومون، فيتلقنها المأموم، والمتعين أن يتوارث الناس هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعبدهم، ودعائهم؛ وقنوتهم، وسائر أحوالهم، فذلك أزكى لهم، وأطيب، وأرجى لهم عند ربهم ومعبودهم.
لِمَا ذكِرَ اقتضى الحال التنبيه على أمور منها ماهو خطأ والصواب خلافه، ومنها ماهو مفضول والأفضل سواه، ومنها ماهو اعتداء في الدعاء يأباه الله، ورسوله، والمؤمنون. ثم نص دعاء القنوت، وضوابط الزيادة فيه شرعا.
• تنبيهات في بيان مايجتنب في القنوت
التنبيه الأول
إن التلحين، والتطريب، والتغني، والتقعر، والتمطيط في أداء الدعاء، منكر عظيم، ينافي الضراعة، والابتهال، والعبودية، وداعية للرياء، والإعجاب، وتكثير جمع المعجبين به.
وقد أنكر أهل العلم على من يفعل ذلك في القديم، والحديث.
فعلى من وفقه الله ـ تعالى ـ وصار إماما للناس في الصلوات، وقنت في الوتر، أن يجتهد في تصحيح النية، وأن يلقي الدعاء بصوته المعتاد، بضراعة وابتهال، متخلصا مما ذكر، مجتنبا هذه التكلفات الصارفة لقلبه عن التعلق بربه.
• **************************************
التنبيه الثاني
يُجْتَنَبُ جلب أدعية مخترعة، لا أصل لها، فيها إغراب في صيغتها وسجعها، وتكلفها؛ حتى إن الإمام ليتكلف حفظها، ويتصيدها تصيدا؛ ولذا يكثر غلطه في إلقائه، ومع ذلك تراه يلتزمها، ويتخذها شعارا، وكأنما أحيا سنة هجرتها الأمة.
• **************************************
التنبيه الثالث
ويُجْتَنَبُ التزام أدعية وردت في روايات لاتصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في سندها كذابا، أو متهما بالكذب، أو ضعيفا لايقبل حديثه، وهكذا.
ومنها حديث فرات عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي علي: (ألا يقوم أحد فيصلي أربع ركعات، ويقول فيهن ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تم نورك فهديت فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت فلك الحمد ... إلى قوله: ولا يبلغ مدحتك قول قائل). رواه أبو يعلى بسند ضعيف؛ لأن فيه عدة علل، منها أن فرات بن سلمان لم يلق عليا ـ رضي الله عنه ـ فهو منقطع الإسناد.
ومع ذلك تسمع من يجهد نفسه بهذا الذكر، فيغلط فيه، ثم يغلط، فهو في مجاهدة مع ذاكرته حتى يأتي به، ولو أخذ بالصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذكر مبارك سهل ميسور؛ لكان أبر وأبرك وأقرب للإجابة، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم بما دعا به ربه ـ سبحانه ـ.
ومنها: ما يروى عن أنس مرفوعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول: (يامن لاتراه العيون، ولا تخالطه الظنون ... إلى أن قال: يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار ... الحديث). أخرجه الطبراني في (الأوسط) بسند فرد فيه من لايعرف، وهو شيخ الطبراني، وتدليس أحد رواته، مع ثقته.
ومنها: التزام ماورد بسند فيه واهي الحديث، فلا يصح، ومنه: (اللهم لاتدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك، يا أرحم الراحمين).
وهو دعاء حسن لايظهر فيه محذور.
لكن يحصل الغلط من جهات هي: هجر الصحيح، والتزام مالم يصح، والزيادة فيه بلفظ محتمل، وهو: (في مقامنا هذا) فيحتمل أن يكون شرطا على الله فهو باطل، ثم الزيادة بسجعات أضعافها.
وهكذا من تتابع سجع متكلف، ودعاء مخترع لبعض المستجدات حتى قاربت العشرين على هذا الروي، والنمط.
• **************************************
التنبيه الرابع
ويُجْتَنَبُ قصد السجع في الدعاء، والبحث عن غرائب الأدعية المسجوعة على حرف واحد. وقد ثبت في: (صحيح البخاري) ـ رحمه الله تعالى ـ عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال له: (فانظر السجع في الدعاء، فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لايفعلون إلا ذلك الاجتناب).
ومن الأدعية المخترعة المسجوعة: (اللهم ارحمنا فوق الأرض، وارحمنا تحت الأرض، وارحمنا يوم العرض).
¥