ثم قال ومدار الفريقين في التخصيص وعدمه القوة والضعف غير أن عيسى بن أبان يلاحظ الضعف في الصيغة من جهة القطع والظن أما الكرخي فيلاحظ الضعف من جهة اتصال المخصص وانفصاله والله تعالى أعلم.
قلت: وحجتنا: أن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وكلاهما موجب للعمل كما تقرر ذلك في موضعه فإذا طرحنا خبر الواحد كان ذلك إلغاءا له ولا يجوز ترك دليل إذا أمكن العمل به، أما إذا قلنا بجواز التخصيص كان ذلك عملا بالدليلين معا، لأن تقديم الخاص على العام لا يلغيه بالكلية، فنعمل بالعموم فيما وراء الخصوص.
فإن قيل إن إخراجكم بعض أفراد العام من العموم ترك ٌ للعمل به على الوجه الصحيح.
قلنا إن السنة الشريفة جاءت مبينة للكتاب قال الله تبارك وتعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). فلما دلت السنة على أن العموم اقتضى حكمه فيما وراء الخصوص وجب المصير إليه.
ويستدل لنا بأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مجمعون على تخصيص القرآن بخبر الواحد ومن أمثلة ذلك:
1* أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُِ في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)
بما رواه البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح من طريق أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة). وبما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتوارث أهل ملتين). قال الشوكاني إسناد أبي داود صحيح إلى عمرو بن شعيب. وباقي الإسناد مشهور.
2* أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)
بما رواه البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها قالت (جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كنت عند رفاعة فطلقني فأبت طلاقي فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير إنما معه مثل هدبة الثوب فقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
3* أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ َفاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْث وَجَدتُّمُوهُمْ)
بما رواه البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (قال وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان). وبما رواه الإمام مالك رحمه الله تعالى في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب. أي سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية فبطل القتل فيهم وخرجوا من عموم المشركين. ويستدل أيضا برواية الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر.
قلت: وأما حجة الحنفية ومن وافقهم فهي ترتكز في نقاط ثلاث سأوردها مختصرة مع الرد عليها إن شاء الله تعالى.
1* الإجماع: احتجوا بأن عمر رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها في المطلقة ثلاثا والحديث عند الإمام مسلم رحمه الله تعالى في الصحيح من طريق أبي إسحق قال كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به فقال ويلك تحدث بمثل هذا قال عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة قال الله عز وجل لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.
قالوا إن عمر رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها ولم ينكر ذلك عليه أحد فكان إجماعا ً.
¥