ثانيهما: أنه نتيجة لهذا المسلك العجيب في التعليم الذي جعل الدعوة إلى الاجتهاد (الجفلى)، أصيب طلبة العلم أنفسهم بداء العجلة وسقوط الهمم، ونفاد الصبر، أو قل عدمه بالكلية، أصبحت صدور طلبة العلم ضيقة، وهممهم ساقطة هزيلة، لم يعد هناك صبر ومصابرة، ولا جلد على طلب العلم والجلوس عند رُِكب المشايخ، وملازمتهم لأخذ العلم والعمل عنهم، أصبح طلاب العلم اليوم لا يقدرون على إكمال متن -أي متن -في أي علم من العلوم.
وهكذا مع ضعف الهمم، بل سقوطها، ومع عموم البلوى بداء العجلة أصبحت هياكل التعليم الديني (الرسمية) يمكن أن تخرج متخصصين بالسنة النبوية لا يحفظون حتى خمسمائة حديث، ولم يقرأوا أمهات الحديث، ويمكن أن تخرج متخصصين بعلوم القرآن والتفسير لا يحفظون القرآن، وقد يخطر في بال أحد من (دهاقنة) هذه الهياكل أن يخرج قراءً لا يحفظون القرآن، ومعظم (كليات الشريعة) اليوم تخرج متخصصين بالفقه لم يكملوا دراسة الفقه، ولو على مذهب واحد من المذاهب المعتبرة.
نصف محدث، ثلث قارئ، ربع فقيه، بعض نحوي أو أديب. أدباء لا يحفظون المعلقات ولا اللاميتين ولا المقصورة، نحويون لا يحفظون الألفية ولا الكافية الشافية بل ولا المُلْحَة أو الاجْرُومية، قراء لا يحفظون الشاطبية ولا الدرة ولا المقدمة، بل ولا حتى القرآن.
محدثون لا يحفظون عمدة الأحكام ولا بلوغ المرام، بل ولم يقرأوا من السنة شيئاً ولو نظراً. فقهاء لم يكملوا شيئاً من المتون على أي مذهب من المذاهب المعتبرة: العمدة أو الزاد أو منار السبيل، الهداية أو القدوري، المنهاج أو المهذب، المختصر الخليلي أو الرسالة.
الناس جميعاً في عجلة من أمرهم، ولذلك لجأوا إلى الاختصار، اختصار كل شيء، العلم اليوم مختصر، والدين مختصر، والعلماء مختصرون، وما لا يمكن اختصاره، يلغى.
نحن المسلمون اليوم نمارس بعضاً أو جزءاً من الحياة الإسلامية الكاملة، وهذا القصور أو النقص يسري في كل شيء، ومن مظاهره قصور عملية التعليم، وهذا النقص الفادح الذي أصابها.
والعجيب أنه صاحب كل ما ذكرنا من ظواهر: ظاهرة أخرى أعجب وأشد نكاية بكل من يحلم مثلي بالتعلم على طريقة السلف:
بعض الحمقى من المتفقتهين الذين اشتهوا التصدر للفتوى والاجتهاد وأرادوا التصدي للتصنيف والتأليف بلغ من هوس العجلة في العلم عندهم أن أرادوا تحت تأثير تلك الشهوة إلغاء سلم التعلم الذي صنعه السلف، اختصاراً للطريق، لأن هممهم ساقطة مثل غيرهم، لكنهم يطلبون الإمامة، شهوة الإمامة ركبتهم وتسلطت على عقولهم، وهذا السلم الذي صنعه ونظمه السلف طويل، يحتاج إلى همم عالية، وإلى صبر ومصابرة، وهم لا يستطيعون صبراً، فأرادوا القفز من فوق الجدران:
- من كتب الحديث اختاروا: نيل الأوطار، وربما سبل السلام.
-ومن كتب الرجال: تقريب التهذيب.
- ومن كتب أصول الفقه: إرشاد الفحول.
وكل هذه المصنفات - إن كنت تعرفها - من أدوات الاجتهاد، أعني أنها مصنفات تصلح للمجتهدين لا للمبتدئين، أو المتفقهين الذين كل همهم الامتثال وإبراء الذمة.
أدلة الأحكام، وكتب الرجال، وأصول الفقه، هذه أدوات للمجتهد الذي انتهى من تعلم الأحكام - أي الفقه -، ومن تعلم العقيدة، ومن تعلم علوم الوسائل.
وهل تظن أن هؤلاء المتعجلين يقرأون هذه الكتب، ومعظمها للشوكاني -رحمه الله- أو يفهمونها؟ إنهم مجرد صيادين، يتصيدون المسائل تصيداً بلا فقه وبلا قريحة صحيحة، أو ملكة علمية سليمة.
وليتهم سكتوا، أو أن الأمر كان ضرره مقتصراً عليهم، لكنهم تصدروا للفتوى والترجيح والاجتهاد، وشرعوا يناقشون الآراء والمذاهب، ودخلوا في علم الخلاف، وهو من العلوم التي لا يقوى عليها إلا فحول الفقهاء، ولما كانت القرائح فجة نيئة لم تستو بعد فقد عجزوا عن إدراك مغازي الكلام ومراميه، فراحوا يخطئون العلماء، ويردون على فحول الأئمة وكبار الفقهاء دون وجل أو أدب.
¥