ومصرية وقيروانية ... مما أوجد الكثير من الاجتهادات المختلفة نتيجة لاختلاف البيئات، فرأوا من الواجب عليهم ضبط ذلك كله كي لا يتسع الخلل، ويدخل الفساد على المفتين نتيجة لاختلافات المرجحين والمخرجين.
وقد كان من عناية علماء المالكية بهذا الباب أن جمعوا في ذلك فصولا ممتعة، من ذلك ما ذكره العلامة أبو العباس أحمد الهلالي في مقدمة كتابه [نور البصر في شرح المختصر] ت1175هجرية، وقد طبعت المقدمة طبعة حجرية بالمغرب، ثم جمع العلامة النابغة الغلاوي ما جاء في مقدمة الهلالي في منظمومته المشهورة بـ[بوطليحية] فتداولها الناس، وطبعت عدة طبعات، وأبياتها قرابة (310). ثم جاء بعده الفقيه محمدن بن أحمد فال التندغي، فعمل نظما آخر، قام بشرحه الفقيه محمد عبد الرحمن بن السالك العلوي ت 1397هجرية، وسمى شرحه [عون المحتسب فيما يعتمد من كتب المذهب] تضمن إضافات كثيرة على نظم الشيخين المذكورين. وقد حقق هذا العمل ضمن رسالة علمية من طرف الباحث محمد الأمين بن محمد فَال بن اباه بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية. ذكر ذلك محقق بو طليحية يحيي البراء.
والأصل لأغلب ما يذكره من سبق تناثر و تفرق في كتب الأقدمين من أمثال الشاطبي والقرافي، وفيما نقله الونشريسي في معياره وغيرهم.
وهذه نُبَذ من كلام الأوائل تتضمن مباحث عامة حول الكتب والمصنفات، وكيفية أخذ الفتوى منها، وما يجب أن يتوفر فيها، وما يقدم منها وما يؤخر ....
أجعلها طليعة لما يأتي ذكره مفصلا – إن شاء الله -.
قال الشاطبي في الموافقات 1/ 139 (طبعة الشيخ مشهور) المقدمة الثانية عشرة: «من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال .... ) ثم تحدث – رحمه الله – عن سبب ذلك، وذكر للمتحقق بذلك أمارات وعلامات بها يعرف، ثم قال ص145: (وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم من أهله فلذلك طريقان: أحدهما المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما، لوجهين .... [فذكرهما] ثم قال 147: (الطريق الثاني مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين وهو أيضا نافع في بابه؛ بشرطين: الأول أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله؛ ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول [أخذه عن أهله] ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قول من قال: < كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال > والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.
والشرط الآخر: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر .... ).
وقال – رحمه الله – في الفتاوى التي جمعها له الشيخ أبو الأجفان 163 - 164 مبينا بعض ما ذكره في الموافقات: ( ... وأما ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فلم يكن ذلك مني – بحمد الله - محض رأيي، ولكني اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس، وابن الحاجب، ومن بعدهم؛ ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتي بعبارة خشنة في السمع، ولكنها محض النصيحة، وأظنكم في هذا الاستقصاء كالمتساهلين في النقل عن كل كتاب جاء، ودين الله لا يحتمل ذلك لما أتحققه من أصوله).
وقال في جواب آخر ص164: ( .. وشأني أن لا أعتمد على هذه التقييدات المتأخرة ألبتة، للجهل بمؤلفيها، وتارة لتأخر زمان أهلها جدا، أو للأمرين معا، فلذلك لا أعرف كثيرا منها ولا أقتنيه، وإنما المعتمد عندي علي على كتب الأقدمين المشاهير).
وقال العلامة القرافي– رحمه الله – في كتابه [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام .. ]
صـ 261: (كان الأصل يقتضي أن لا تجوز الفُتيا إلا بما يرويه العدل عن العدل، عن المجتهد الذي يقلده المفتي، حتى يصح ذلك عند المفتي، كما تصح الأحاديث عند المجتهد، لأنه نقل لدين الله تعالى في الوصفين، وغير هذا كان ينبغي أن يحرم، غير أن الناس توسعوا في هذا العصر، فصاروا يفتون من كتب يطالعونها من غير رواية، وهو خطر عظيم في الدين، وخروج عن القواعد.
¥