أول كتبهم واعظم المصنفات عندهم (وهو عظيم) كتاب المدونة لسحنون التنوخي التى دونها من سؤالاته لعبدالرحمن بن القاسم.
تجاوز الشيخ زياد – نفع الله به – الموطأ، وكأن ذلك لشهرته.
فمِن أول الكتب المعتمدة في الفتوى عند المالكية موطأ الإمام مالك – رحمه الله – الذي كتبه الإمام بيده، وقرأه عليه تلاميذه مدة طويلة من حياته، توخى فيه الإمام القوي من حديث أهل الحجاز، وجمع فيه طائفة كبيرة من أقوال الصحابة، وفتاوى التابعين ... ، وبناه على تمهيد الأصول للفروع، فهو صورة مشرقة للفقه العملي، تضمن ما يقارب ثلاثة آلاف مسألة.
والحديث عن الموطأ طويل الذيول، متشعب النواحي، ويسعنا من ذلك هنا أن نتحدث – باختصار – عن بعض الجوانب المتعلقة بغرضنا.
لعل أهم النقاط في هذا الجانب هو الحديث عن منزلة الموطأ بين كتب الفتوى عند المالكية.
فلم تزل هذه المسألة محفوفة بشئ من الإشكال، فالملاحظ من الناحية العملية أن مرتبة الموطأ من حيث ترتيب ما تضمنه من اجتهادات الإمام قد تأخر نوعا ما عند المتأخرين من أتباع الإمام، فبعد أن كان (إنما يفتى بقول مالك في الموطأ، فإن لم يجده في النازلة فبقوله في المدونة .... ) كما قال شيخ المغرب أبو محمد صالح بن محمد الهسكوري الفاسي ت631 هجرية، المعيار للونشريسي 12/ 23، وكما نص على ذلك العلامة ابن رشد في مقدماته 1/ 44، = نجد بعض المتأخرين يحكي اتفاق المالكية على أن رواية ابن القاسم عن الإمام في المدونة مقدمة على كل ما يخالفها [فتح الملك العي للشيخ عليش 1/ 106]. ونجد الشيخ حبيب الله الشنقيطي يصرح في منظومته [دليل السالك إلى موطأ الإمام مالك] ص 75: بأن رواية المدونة تُقيد غالبا ما جاء في الموطأ وتخصصه.
وهم يعللون صنيعهم هذا بأن المدونة جاءت متأخرة عن الموطأ، وهي رواية ابن القاسم الذي كان أطول التلاميذ صحبة للإمام، وأعلمهم بالمتقدم من قول الإمام والمتأخر ... ولِمَا وقع من الاتفاق على الثقة بعلمه وورعه، وما غلب على الظن أنه إنما يجيب في المسائل بقول مالك الأخير حيث يختلف قوله، فهو لم ينقل أقواله مطلقا؛ لأن ذلك يورث السائل حيرة، بل يختار ويحكي أصح قولي الإمام عنده، انظر [كشف النقاب الحاجب] لابن فرحون 68.
ولعل من أسباب تقديم رواية المدونة على ما جاء صريحا أو إشارة في الموطأ، وعلى غيره من الروايات عن الإمام = ما كان يشترطه بعض أهل الأندلس على القضاة من الحكم بقول ابن القاسم في المدونة، وألا يخرجوا عنه لغيره، وقد كان هذا الشرط محل انتقاد شديد من بعض محققي المذهب المالكي – الطرطوشي، الباجي، ابن العربي، المقري الجد .. مثلا -.
بل تعدى الأمر عند محققي المذهب إلى ترجيح عدة أقوال وروايات مخالفة للمشهور في المذهب، وقد وافقهم على اختيارهم جماعة الفقهاء، وجرى به عملهم، ومن هؤلاء المحققين: أبو عبد الله ابن عتاب ت462، وأبو الوليد ابن رشد الجد 520، وأبو بكر ابن زرب 381، وأبو الحسن اللخمي 478، والمازري 536، وابن عبد البر وابن العربي والباجي ... وغيرهم.
وقد صرح ابن العربي – رحمه الله – فيما نقله عنه الشيخ علي العدوي - من المتأخرين - أنه: (إذا وجد قول الموطأ والمدونة؛ يقدم ما في الموطأ على المدونة؛ لأن الموطأ قرئ عليه إلى أن مات بخلاف المدونة لأنها سماع أصحابه منه).
ولعل من أسباب ذلك أيضا غلبة الفقه الفروعي المجرد في المذهب عند المتأخرين على طريقة الفقه المؤصل المدلل عند أسلافهم، فالمدونة بهذا الاعتبار أنسب لهم لغلبة الناحية التجريدية عليها، وقد جاءت الأحكام على مسائلها جاهزة من قِبل الإمام أو أحد تلاميذه؛ مما دعا إلى فتور الهمم، وعدم إعمال الجهد في تطلب الأحكام للنوازل المشابهة اكتفاء بأجوبة الإمام واجتهاداته.
والمسألة في حاجة لدراسة موسعة، يتم فيها حصر المسائل التي ظهر فيها تقديم قول الإمام في غير الموطأ على قوله في الموطأ، أو ما يفهم أنه قول للإمام فيه، ثم معرفة الأسباب وراء ذلك، مع بيان الراجح من ذلك كله ... وقد سمعت أن بعض الباحثين قد شرع في إعداد دراسة علمية حول المسائل التي اختلف فيها قول الإمام في الموطأ والمدونة.
ومن المسائل المهمة التي ينبغي بحثها في الموطأ؛ الأحاديث التي أسقطها الإمام من أصل كتابه، فقد قيل: إن الإمام ضمن كتابه قرابة عشرة آلاف حديث، ثم لا زال ينقح كتابه ويسقط الحديث بعد الحديث حتى وصل إلينا في هذا العدد القليل، بل قال البعض: إن الإمام لو عاش أكثر لأسقط علمه كله.
لم أجد للقدماء – في بحثي القاصر جدا - كلاما خاصا حول هذا الأمر، وكذلك الحال بالنسبة لمن بعدهم، إلا بعض الإشارات العامة، مثل قولهم: بعدم حرص الإمام على كثرة الرواية، وأن الإمام كان إذا شك في حديث طرحه كله، وأنه يفعل هذا حرصا منه على ما يراه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين، ومنها قول البعض: إنه طرحها لمخالفتها للعمل، ومنها: تبيّن ضعفها للإمام ... قلت: وربما يكون بعض الذي أسقطه الإمام أسانيد متكررة لحديث واحد، انتقى أصحها وطرح الباقي، والله أعلم.
¥