تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما العلامة ابن ناجي فقد ذهب إلى نفي مجمل المتابعة، فقال - عندما أعاد الدباغ في معالم الإيمان باختصار قول القاضي عياض المتقدم عن التهذيب – قال ابن ناجي: ( ... ... ما ذكر من كونه تبعه غير صحيح، وكثيرا ما يختصر خلاف ما في مختصر أبي محمد، مما هو معروف، وإنما هو مبيّن لاختصاره ... )، نقله الدكتور أبو الأجفان عن معالم الإيمان 3/ 146 – 147.

وكلام العلامة ابن ناجي قاسم بن عيسى التنوخي < تـ 837 > من الأهمية بمكان هنا؛ لأنه العارف الخبير بالتهذيب، إذ له عليه شرحان: أحدهما: كبير يعرف بالشتوي، في أربعة مجلدات، منه نسخة بالقرويين، وأخرى بتونس، والآخر صغير يعرف بالصيفي.

وقد يفهم البعض لأول وهلة أن بين كلامي الإمامين عياض وابن ناجي شيئا من التناقض – وكلاهما له معرفة تامة بالكتابين –.

فأقول: يدفع ذلك بأن مراد ابن ناجي من نفي المتابعة؛ نفي أن يكون البرادعي قد أخذ بعض كلام ابن أبي زيد وأودعه تهذيبه بلفظه، أو نفي أنه ربما اختصر كلام أبي محمد كما فهم ذلك بعض أهل العلم من كلام عياض، فعدوا تهذيب البرادعي مختصرا لمختصر ابن أبي زيد للمدونة – كما تقدمت الإشارة إليه –.

وبهذا يمكن حمل مراد القاضي عياض في قوله: إن البرادعي اتبع طريقة ابن أبي زيد؛ على أنه تبعه في أسلوب صياغة طائفة من جمل المدونة بأسلوب غير أسلوب سحنون فيها، ولفظ غير لفظ الإمام وعبارته، وفي مثل عمل القاضي عياض والبرادعي؛ من الممكن جدا أن تتقارب ألفاظهما، إلى درجة أن يتخيل للناظر في الكتابين أنهما خرجا من مشكاة واحدة ... وذلك أنهما تواردا على كتاب واحد لاختصاره وتهذيبه ... وكتبا في مادة علمية واحدة ... فمن المنطقي أن يتقارب التعبير، ويتشابه اللفظ، إذ لو اختلفت عبارتهما كثيرا لاختلف المعنى لاختلاف اللفظ .. وهذا لا يكون مع اتفاق الكتاب المتناول بالاختصار، واتفاق مادة البحث والدرس.

والذي أريد أن أخلص إليه من هذا كله: أن البرادعي – رحمه الله – مع محاولته المحافظة على ألفاظ المدونة عند الاختصار= إلا أنه في مواطن عدة قد خالف ذلك ... مما ترتب عليه تغيّر في المعنى، فيطلق حيث ينبغي التقييد، ويقيد حيث يتوجب الإطلاق مثلا ... وتتداخل الأقوال عنده فلا يدري أيها قول الإمام، وأيها قول التلاميذ ... إلى غير ذلك من غوائل المختصرات.

ومن هنا تتابع الاعتراض والتصحيح لبعض جمل التهذيب من قبل جماعة من العلماء، وصدق نصح الأشياخ المالكيين الأقدمين في نهيهم عن الاعتماد على المختصرات الفقهية في الفتوى، والدرس والتحصيل، كما أشار إليه العلامة ابن رشد الجد في مسائله 1/ 642، ويبقى نص المدونة وعبارتها حجة على كل المختصرات، وليست المختصرات حجة على ما جاء في المدونة الأم، كما قاله ابن رشد الجد في الموضع السابق.

وهذه نقول قصيرة لبعض نصوص المدونة مع ما يقابلها من كلام صاحب التهذيب، لعل فيها مصداق ما تقدم ذكره عن طريقة أبي سعيد في تهذيبه ...

في المدونة 1/ 12: (في وضوء المجنون والسكران والمغمى عليه إذا أفاقوا.

قال: وسألت مالكا عن المجنون يخنق، قال: أرى عليه الوضوء إذا أفاق. قلت لابن القاسم: فإن خنق قائما أو قاعدا، قال: لا أحفظ عن مالك فيه شيئا، ولكني أرى أن يعيد الوضوء. قلت: فمن ذهب عقله من لبن سكر منه أو نبيذ، قال: لم أسأل عنه مالكا ولكن فيه الوضوء.

قال: وقال مالك: من أغمي عليه فعليه الوضوء, قال: فقيل لمالك: فالمجنون أعليه الغسل إذا أفاق؟ قال: لا , ولكن عليه الوضوء. قال: وكان مالك يأمر من أسلم من المشركين بالغسل, قال: وقد يتوضأ من هو أيسر شأنا ممن فقد عقله بجنون أو بإغماء أو بسكر وهو النائم الذي ينام ساجدا أو مضطجعا لقول الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} وقد قال زيد بن أسلم: إنما تفسير هذه الآية: إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني من النوم).

قال في التهذيب 1/ 179 - 180:

(في وضوء المجنون والسكران والمغمى عليه يفيق.

ومن خنق قائما أو قاعدا ثم أفاق توضأ، ولا غسل عليه.

ومن فقد عقله بإغماء أو بجنون أو سكر توضأ، وقد يتوضأ من هو أيسر شأنا ممن ذكرنا، وهو الذي ينام ساجدا أو مضطجعا، لقول الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة ... } الآية، قال زيد بن أسلم: يعني النوم).

ومن ذلك النص المشهور عند متأخري المالكية المتضمن – حسب فهم البعض – لرأي مالك في حكم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، جاء في المدونة 1/ 74:

(الاعتماد في الصلاة والاتكاء ووضع اليد على اليد.

قال: وسألت مالكا عن الرجل يصلي إلى جنب حائط فيتكئ على الحائط؛ فقال: أما في المكتوبة فلا يعجبني، وأما في النافلة فلا أرى به بأسا, قال ابن القاسم: والعصا تكون في يده عندي بمنزلة الحائط, قال: وقال مالك: إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد وكان لا يكره الاعتماد, قال: وذلك على قدر ما يرتفق به فلينظر أرفق ذلك به فيصنعه. قال: وقال مالك: في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة؟ قال: لا أعرف ذلك في الفريضة وكان يكرهه ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به نفسه.

قال: سحنون عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعا يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة).

وقال في التهذيب 1/ 241 – 242:

(الاعتماد في الصلاة.

ويتوجه بيديه إلى القبلة، ولم يحدّ أين يضعهما، ولا يتكئ في المكتوبة على حائط أو عصا، ولا بأس به في النافلة، وإن شاء اعتمد على يديه للقيام أو ترك [أي ذلك أرفق به فعله]، ولا يضع يمناه على يسراه في فريضة، وذلك جائز في النافلة لطول القيام).

فإذا كان منك على ذُكر ما تقدم من أن متأخري المالكية عَظُم اعتمادهم على التهذيب، حتى أطلقوا عليه اسم المدونة اصطلاحا = ظهر لك سبب جديد – ربما خفي على كثيرين – في اشتهار القول بالسدل عند المالكية المتأخرين، ويقوى هذا لو كان اختصار أبي محمد ابن أبي زيد قريبا من هذا اللفظ. والله أعلم وأحكم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير