ومن المهمات التي تتعلق بالحديث عن المدونة والكتابات العلمية حولها؛ ما أشار إليه الأخ الفاضل زياد بقوله:
المشاركة الأصلية بواسطة زياد العضيلة
بارك الله فيك.
قال ابن العربي في قانون التأويل أو كتاب فوائد الرحلة (كما سماه السيوطي)، وقرأنا - المدونة - على الطريقتين (القيروانية القائمة على النظر والعراقية القائمة على الدليل) أو كما قال يرحمه الله.
تتبعت هذا الأمر وأتعبني ردحا من الزمن فدرت بين أن تكون اشارته:
1 - الى شروح المدونة وطريقة اصحابها في التصنيف فيرجع الأمر الى طرائق التصنيف.
2 - المذهب المالكي كله فيصير فيه مدرستين.
3 - الى التدريس وطرائقه.
وتتبعت هذا الأمر فكان الأول هو الأقرب عندي حسب ما وقفت عليه من شروح المدونة و بعد تتبع كلام المالكية في عشرات المصنفات المالكية - قبل و في زمن ابن العربي - رحمه الله مع مئات التراجم والمسائل المالكية.
فأن حضركم شئ من تفسير هذه العبارة ينتفع به أخوانكم.
قلت: كلام ابن العربي – رحمه الله – في كتابه قانون [قانون التأويل] صـ 97، ونصُّهُ: ( .. ولم نزل بتلك السجية – البحث والدرس والمناظرة – حتى اطلعت بفضل الله على أغراض العلوم الثلاثة: علم الكلام، وأصول الفقه، ومسائل الخلاف التي هي عمدة الدين، والطريق المهيع إلى التدرب في معرفة أحكام المكلفين، الحاوية للمسألة والدليل، والجامعة للتفريع والتعليل، وقرأنا المدونة بالطريقتين: القيروانية في التنظير والتمثيل، والعراقية على ما تقدم من معرفة الدليل).
وقد ذكر في مقدمة كتابه هذا أنه يذكر في أوله ما حضره من كتابه الذي استلبته الحوادث [ترتيب الرحلة للترغيب في الملة] وهو الذي أشار فيه إلى طريقة المالكيين الأوائل في تدريس المدونة السحنونية.
ثم أعاد ذكر هذه الطريقة مع شئ يسير من التفصيل؛ العلامة الرجراجي في مقدمة كتابه [مناهج التحصيل ... ] السابق الذكر، وبعده الأديب المقري نقلا عن تعليق لأحدهم لم يسمه، ويغلب على الظن أنه الرجراجي – رحمه الله - فقال في أزهار الرياض 3/ 22 - 23: (وقد كان للقدماء – رحمهم الله – في تدريس المدونة اصطلاحان: اصطلاح عراقي، واصطلاح قروي.
فأهل العراق: جعلوا في مصطلحهم مسائل المدونة كالأساس، وبنوْا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات، ومناقشة الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل، وتحرير الدلائل، على رسم الجدليين، وأهل النظر من الأصوليين.
وأما الاصطلاح القروي: فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاف المقالات، مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع في السماع، وافق ذلك عوامل الإعراب أو خالفها.
فهذه كانت سيرة القوم رضوان الله عليهم، إلى أن عمّ التكاسل، وصار رسم العلم كالماحل، ويحقق ما قلناه تصرف التونسي في تعاليقه اللطيفة المنزع، واللخمي في تبصرته البارعة الختام والمطلع، إلى غير ذلك من تآليف القرويين، وتعاليق المحققين، من شيوخ الإفريقيين.
وقد سلك القاضي عياض في تنبيهاته مسلكا جمع فيه بين الطريقتين والمذهبين، وذلك لقوة عارضته، نفعه الله بذلك، وأعاد علينا من بركاته).
فها أنت تراه – رعاك الله – قد بدأ فجعل هذه طريقتهم في التدريس؛ وختم بنسبتها لطريقتهم في التأليف والتصنيف، وما ذلك إلا أن الأشياخ المبرزين كانوا في دروسهم على درجة عالية من المنهجية العلمية، فينعكس ذلك على طرائقهم في مصنفاتهم العلمية، والغالب أن تكون مادة الدرس من خلال ما يحضره الشيخ من مواد منقولة في أوراق - مثلا – أو في ذهنه، فيقوم في درسه بتحليلها وتقريرها، ونقد ما يستحق من نقد عند مقارنة النصوص ومقابلتها ... إضافة إلى ما يفتح الله عليه به أثناء مباشرة التدريس، وما ينتج عن المباحثة بينه وبين طلبته في بعض المسائل، فيجتمع ذلك ليكون تصنيفا مدققا مرتبا مستقبلا، وبهذه المنهجية صنف الرجراجي كتابه [مناهج التحصيل .. ] وربما كان العكس أي يقرئ الشيخ لطلبته كتابا صنفه وأعده قبلُ.
ومن نماذج الطريقة الأولي؛ تقييدات أبي الحسن الصُّغير الزرويلي على تهذيب البرادعي، وبعض مصنفات القاضي أبي بكر ابن العربي، وما جمعه الطلبة من تفسير ابن عرفة، وغير ذلك كثير.
ولا يمنع التقسيم المذكور من وجود جماعة في إحدى المدرستين – العراقية والقيروانية – جمعوا بين الطريقتين في التصنيف والتدريس؛ وخير مثال على ذلك العلامة ابن أبي زيد – رحمه الله – فقد اجتمعت لديه نفائس الآثار، وتلاقى في كنفه متباعد الأفكار، وذلك من خلال تعدد مشايخه، وتنوع مشاربهم، وتجاوزه للبيئة القيروانية بمراسلة جماعة من المالكيين شرقا وغربا، وتنوع تآليفه تأصيلا وتفريعا.
ومن أبرز من جمع بين الطريقتين العلامة الهمام أبو الوليد الباجي – رحمه الله – يظهر ذلك جليا في كتابه الموسوم بـ[المنتقى] الذي شرح به كتاب إمام المذهب [الموطأ]، وتبعه على ذلك جماعة من المالكيين من الطبقات الموالية، من أمثال: ابن العربي، وعياض، والرجراجي، وسند بن عنان في طرازه الماتع.
¥