تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد لَحَظَ الإمام مالك ـ رحمه الله ـ هذه الظاهرة في عصره، مع قرب عهده بعصر صدر الإسلام، وذلك أنه قال لأبي جعفر لما طلب منه أن يحمل الناس على الموطأ: (يا أمير المؤمنين قد رسَخَ في قلوب أهل كل بلدٍ ما اعتقدوه، وعملوا به، وردُّ العامةِ عن مثل هذا عسير) اهـ، وفي رواية: (لا تفعل هذا، فإنَّ الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وغيرهم، وإنَّ ردهم عما اعتقدوه شديدٌ، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم) اهـ[الانتقاء في فضائل الإئمة الفقهاء؛ لابن عبد البر (41)، سير أعلام النبلاء؛ للذهبي (8/ 78)].

ثم إنَّ قولهم " عليه العمل " مخصوصٌ بعصر القائل ومصره، هذا في المسائل التي ليس فيها نصٌّ، فإنَّ ترجيح قولٍ من الأقاويل الفقهية أمرٌ نسبي، يختلف باختلاف الظروف والأعصار، وقد كان في القديم لكل بلدٍ فقاهته وعمله، خصوصاً الحواضر الكبرى في الإسلام، وكان طلاب العلم وشُدَاتُه يفِدُون إلى أهل العلم في تلك الحواضر، ليقبسوا من معين فقهها (2).

الفرق بينها وبين "العادة محكمة":

وقد يظنُّ ظانٌّ أن هنالك تطابقاً بين "ماجرى به العمل " و قاعدة " العادة محكّمة "، وليس هذا بصواب، بل بينهما فرقٌ بيّنٌ، فقاعدة "ما جرى به العمل " يُقصد بها أن الفقهاء والحكام أفتوا بذلك، وقضوا به، واستمروا عليه. وأما قاعدة "العادة محكّمة " فمعناها أن عامة الناس تعارفوا على فعل أو لفظ، من غير استناد إلى فتوى أو حكم، فالأولى عمل الفقهاء، والثانية عمل الناس كافة [أصول الفتوى والقضاء؛ د. محمد رياض (515)].

لماذا نعتبر ما جرى به العمل:

إنَّ تواتر الفقهاء في بلد ما، على اختيار قولٍ من الأقوال؛ يشي بأنهم اطلعوا على مرجِّح لذلك القول على غيره، وأنهم رأوه أنسب الأقوال، وأصلحها زماناً ومكاناً وحالاً، فلربما عدَلَ الفقيه عن قولٍ إلى غيره، لاعتباراتٍ خارجةٍ عن المرجحات الخاصة (3)، كمثل قولهم في تضمين الصناع: " لا يصلح الناس إلا ذلك "، مما يشير إلى أن البحث النظري المجرد ربما كان قاصراً عن إنتاج الحكم الصحيح، ما لم يُضَف إليه سبر الواقع العلمي الجاري، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " وعلى هذا فإذا كان الناس فساقاً كلهم، إلا القليل النادر، قبلت شهادة بعضهم على بعض، ويحكم بشهادة الأمثل من الفساق فالأمثل، هذا هو الصواب الذي عليه العمل، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم، كما أن العمل على صحة ولاية الفاسق ونفوذ أحكامه، وإن أنكروه بألسنتهم، وكذلك العمل على صحة كون الفاسق ولياً في النكاح، ووصياً في المال، والعجب ممن يسلبه ذلك، ويرد الولاية إلى فاسقٍ مثله، أو أفسق منه "اهـ[الطرق الحكمية (256)].

وواضحٌ أن ابن القيم في كلامه المتقدم يرصد بعض مظاهر التناقض التي يقع فيها من يتجاهلون ما جرى به العمل الفقهي، ويكشف لنا وقوعهم في مفسدتين:

أولاهما: أنهم يبنون أحكامهم على خيالات ومثاليات، لا تقبل التنزيل والتطبيق.

ثانيتهما: أنهم يقعون في شرٍّ مما فروا منه، كهؤلاء الذين ردوا ولاية الفاسق في النكاح، ثم قلَّدوها لمن هو مثله، أو شرٌّ منه.

ضوابط ما جرى به العمل:

غير أنه يجب ضبط هذه الكلية، حتى لا تكون سلاحاً في سبيل إهدار النصوص والأصول واطراحها، بحجة مخالفتها لما جرى به العمل، وقد نعى الله سبحانه على الجاهليين توسعهم في الاحتجاج بآراء رؤسائهم، وأعراف آبائهم وأجدادهم، وجريان العمل عندهم على خلاف ما جاءت به الأنبياء والرسل ـ عليهم السلام ـ، قال تعالى: ((وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

والآن إليك: ضوابط مراعاة ما جرى عليه العمل:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير