تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

1ـ ألا يخالف دليلاً شرعياً، أو قاعدة كلية، أما إذا لاح الدليل الشرعي، الخالي من المعارض الراجح، فالأخذ به لازمٌ لكل أحد، ولا يبالي المرء بخلاف من خالفه كائناً من كان. ولهذا شواهد كثيرة من تصرفات الأئمة الكبار عبر التاريخ، فقد ابتلي عامتهم بسبب مخالفتهم لما جرى في بلدانهم من خلاف السنن والشرائع، والله المستعان.

يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله, ولا يجهل قدره, وهو من أعلى المراتب السنيات, فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟. فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عدته, وأن يتأهب له أهبته, وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه, ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به; فإن الله ناصره وهاديه "اهـ[إعلام الموقعين (1/ 11،10)].

وقد كان الأصل لدى أئمة السلف قوة الدليل، لا كثرة القائلين، وهذا الإمام مالكٌ ـ رحمه الله ـ، مع ما عُرف عنه من الأخذ بعمل أهل المدينة، حتى سرى ذلك إلى أصحاب مذهبه، فتواضع بعض أهل الحواضر الكبرى من المالكية على اعتبار ما جرى به عمل أهلها، فأصبح هنالك ما يسمى: عمل فاس، وعمل تلمسان، وعمل مراكش، وعمل قرطبة ... الخ.

ومع ذلك فإننا نجد مالكاً يخالف الجمهور، فيما ظهر له دليله، قال ابن فرحون ـ رحمه الله ـ: " وأن مالكاً ـ رحمه الله ـ كان يراعي من الخلاف ما قويَ دليله، لا ما كثر قائله, وقد أجاز ـ رحمه الله ـ الصلاة على جلود السباع إذا ذكيت، وأكثرهم على خلافه, وأباح بيع ما فيه حق توفيةٍ من غير الطعام قبل قبضه, وأجاز أكل الصيد إذا أكل منه الكلب, ولم يراعِ في ذلك خلاف الجمهور "اهـ، ذكره في تبصرة الحكام.

ومن هذا الباب: فتيا شيخنا ابن باز ـ رحمه الله ـ في مسألة الطلاق بالثلاث، وهو في العشرينات من عمره، وهي من كبريات المسائل، ولها تعلق بالقضاء، وهذا أشد، ومع هذا لم يلتفت إلى ما جرى به العمل، لمَّا ظهر له الدليل، وابتلي في ذلك بما يطول سرده!

وقد حُذِّرنا مما جرى به العمل؛ إذا كان في غير سنة، كما جاء عن ابن مسعود: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ، يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنةً، فإذا غُيرت قالوا: غيرت السنة، قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن، قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة) اهـ[أخرجه الدارمي برقم (185) (1/ 75)].

2ـ أن يثبت جريان أهل العلم على ذلك القول، لأن هذه قضيةٌ نقليةٌ، لا بد لإثباتها من الاستناد إلى نقلٍ صحيح، و إلاّ فقد يزعمُ زاعمٌ أن العمل جرى بقولٍ من الأقوال، ولا يكون قولُه مطابقاً للواقع، يفعل ذلك إما غفلةً وخطأً، أو شبهةً وهوى.

وربما يُعمَلُ هذا الأصلُ في وجه أهل العلم، لأغراض دنيوية، وينصب شعاراً يُدرأ به في نحور المصلحين، وليس بخاف عليك ما حصل للإمام ابن تيمية من الابتلاء بسبب صدعه بما يراه موافقاً للسنة، فأشهَرَ خصومُهُ في وجهه تهمةَ " نقض الإجماع "، و عدم اعتبار " ما جرى به عمل أهل العلم "، وقع له هذا في فتيا الطلاق الثلاث، و مسألة شد الرحال، وغيرهما من المسائل.

هذا،،، والموضوع ذو شجون وفنون، ولكني أكفُّ القلم رجاء استدراك حبيب، أو نقد محبٍّ لبيب ...

والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل ...

ـــــــــــ

- حواشي ـ من قرأ الحواشي ما حوى شي ـ:

(1) هذا ما ظهر لي بعد التأمل في فتاوي علماء الأمصار، وهذه المسألة غير مسألة احتجاج الإمام مالك بعمل أهل المدينة، لأن مراده ما كان من باب النقل والرواية، وأما بحثنا هنا فمقصوده بيان أهمية مراعاة المفتي ما جرى عليه العمل في بلده، وللمالكية اصطلاحٌ أخص من المذكور أعلاه ـ لا يهمنا هنا ـ، وهو أنهم يطلقون مصطلح " العمل " على: " العدول عن القول الراجح والمشهور في القضايا، إلى القول الضعيف فيها، رعياً لمصلحة الأمة، وما تقتضيه حالتها الاجتماعية "، أي أنه قولٌ ضعيف، يفتى به، لسبب اقتضاه، انظر: تطور التشريع المغربي من خلال ما جرى به العمل؛ لعمر الجيدي (114)، ضمن: ندوة فلسفة التشريع الإسلامي، أكاديمية المملكة المغربية، بدون تأريخ.

(2) ومن ذلك ما قاله ابن حميد في السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، في ترجمة سليمان بن عثمان المرداوي الصالحي ـ رحمه الله ـ: " ثم انتقل إلى قرية دُومة، من غوطة دمشق بعياله، وأخَذَ فقاهتها ولازمها إلى أن توفي "اهـ[(2/ 411)].

(3) مرادي بالمرجحات الخاصة: ضوابط الترجيح بين الأدلة المتعارضة، التي تكلم عليها الأصوليون في أواخر كتب الأصول، في أبواب " التعارض والترجيح ".

(4) كما حصل لأبي العباس ابن تيمية، وابن القيم ـ رحمهما الله ـ في مسألة الطلاق الثلاث بلفظٍ واحد، وشد الرحال إلى قبر المصطفى، وجواز المسابقة بغير محلل.

ـ[عصام البشير]ــــــــ[03 - 11 - 04, 03:27 م]ـ

جزاكم الله خيرا

أشكل علي في مقالكم الكريم أنكم جعلتم الفتوى بجواز مس المصحف للجنب شاذة ومخالفة للعمل، والفتوى بأن الطلاق الثلاث يحتسب واحدة من باب ما قوي دليله وخلا من المعارض الراجح.

مع أنني لا أرى كبير فرق بينهما، بل الثانية أخطر لتعلقها بمسائل القضاء، وبناء الأسر وهدمها، كما تفضلتم ببيانه.

أفيدونا بارك الله فيكم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير