تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام له مفيد:" وأما المصوغ من الدراهم والدنانير، فإذا كانت الصياغة محرمة كالآنية، فهذه تحرم بيع المصاغة لجنسها وغير جنسها، وبيع هذه هو الذي أنكره عبادة على معاوية، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخواتيم الفضة وكحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها من الفضة، وما أبيح من الذهب عند من يرى ذلك فهذه لا يبيعها عاقل بوزنها، فإن هذا سفه وتضييع للصنعة، والشارع أجل من أن يأمر بذلك، ولا يفعل ذلك أحد البتة، إلا إذا كان متبرعا بدون القمية.

وحاجة الناس ماسة إلى بيعها وشرائها، فإن لم يجوز بيعها بالدارهم والدنانير فسدت مصلحة الناس، والنصوص والواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها ما هو صريح في هذا، فإن أكثرها إنما فيه الدراهم والدنانير، وفي بعضها لفظ الذهب والفضة، فهو بمنزل نصوص الزكاة، ففيها لفظ الورق وهو الدراهم، وفي بعضها الذهب والفضة، وجمهور العلماء يقولون: لم يدخل في ذلك - أي في نصوص الزكاة - الحلية المباحة بل لا زكاة فيها، فكذلك الحلية المباحة لم تدخل في نصوص الربا، فإنها بالصيغة المباحة صارت من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، فلهذا لم يجب فيها زكاة الدنانير والدراهم، ولا يحرم بيعها بالدنانير والدراهم.

ومما يبين ذلك أن الناس كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخذون الحلية، وكن النساء يلبس الحلية، وقد أمرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد أن يتصدقن، وقال: (إنكن أكثر أهل النار)، فجعلت المرأة تلقي حليها، وذلك مثل الخواتيم والقلائد.

ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي ذلك الفقراء والمساكين، وكانوا يبيعون، ومعلوم بالضرورة أن مثل هذا لا بد أن يباع ويشترى، ومعلوم بالضرورة أن أحدا لا يبيع هذا بوزنه، ومن فعل هذا فهو سفيه يستحق أن يحجر عليه.

كيف وقد كان بالمدينة صواغون، والصائغ قد أخذ أجرته، فكيف يبيعه صاحبه ويخسر أجرة الصائغ؟ هذا لا يفعله أحد، ولا يأمر به صاحب شرع، بل هو منزه عن مثل هذا، ولا يعرف عن الصحابة أنهم أمروا في مثل هذا أن يباع بوزنه، وإنما النزاع في الصرف، والدرهم بالدرهمين، فكان ابن عباس يبيح ذلك، وأنكره عليه أبو سعيد وغيره، والمنقول عن عمر إنما هو في الصرف.

وأيضا فتحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة، وما حرم لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كالصلاة بعد الفجر والعصر، ولما نهي عنها لئلا يتشبه بالكفار الذي يعبدون الشمس ويسجدون للشيطان، أبيح للمصلحة الراجحة، فأبيح صلاة الجنازة، والإعادة مع الإمام ... وكذلك ركعتا الطواف وكذلك على الصحيح ذوات الأسباب مثل تحية المسجد، وصلاة الكسوف وغير ذلك، وكذلك النظر إلى الأجنبية لما حرم سدا للذريعة، أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيح للخطاب وغيره، وكذلك بيع الربوي بجنسه، لما أمر في بالكيل والوزن لسد الذريعة، أبيح بالخرص عند الحاجة، وغير ذلك كثير في الشريعة.

كذلك هنا: بيع الفضة بالفضة متفاضلا، لما نهي عنه في الأثمان لئلا يفضي إلى ربا النساء - الذي هو الربا - فنهي عنه لسد الذريعة، كان مباحا إذا احتيج إليه للمصلحة الراجحة، بيع المصوغ مما يحتاج إليه، ولا يمكن بيعه بوزنه من الأثمان، فوجوب أن يجوز بيعه بما يقوم به من الأثمان، وإن كان الثمن أكثر منه، تكون الزيادة في مقابلة الصنعة ..... ولهذا ما زال الناس يقابض بعضهم بعضا الدراهم، مثل أن يكون عند هذا دراهم كاملة ثقيلة، وهو يطلب خفافا وأنصافا، فيطلب من يقابضه، فيقابضه الناس، ولا يرون أنهم خسروا شيئا، بخلاف ما لو طلب أن يبيعوه المصوغ بوزنه دراهم، فإنهم يرونه ظالما لهم معتديا، ولا يجيبه إلى ذلك أحد.

وبالجملة فلا بد من أربعة أمور: إما أن يقال: هذه لا تباع بحال، فهو ممتنع في الشرع، أو يقال: لا تباع إلا بوزنها ولا يحتال في بيعها بغير الوزن، وأيضا لا يفعله أحد، أو يقال: لا تباع إلا بوزنها ولكن احتالوا في ذلك حتى يبيعوها بوزنها، فهذا مما لا فائدة فيه، بل هو أيضا إتعاب للناس، وتضييع للزمان به، وعيب ومكر وخداع لا يأمر الله به، أو يقال: بل تباع بسعرها بالدراهم والدنانير، وهذا هو الصواب، وهذا القسم حاضر، ثم إذا بيعت بالسعر فإنها تباع بالنقد، وأما بيعها بالنساء فلا يحتاج إليه، وهو محتمل، وقد يحتاج إليه.

وهكذا سائر ما يدخل في الذهب والفضة في لباس، كلباس النساء الذي فيه ذهب وفضة، فإنه يباع بالذهب والفضة أو الفضة بسعره.

وأواني الذهب والفضة وصيغتها محرمة، وأجرة ذلك محرمة، فإذا بيعت لم تحرم الزيادة لكونها ربا، بل لكونها غير متقومة، وهو كبيع الأصنام وآلات اللهو.

وهنا يتصدق بهذه الزيادة ولا تعاد إلى المشتري، لأنه قد اعتاض عنها، فلو جمع له بين العوض والمعوض لكان ذلك أبلغ في إعانته على المعصية، وهكذا من باغ خمرا، أو باع عصيرا لمن يتخذه خمرا، فهنا يتصدق بالثمن، وهكذا من كسب مالا من غناء أو فجور، فإنه يتصدق به.

وكل موضع استوفى الآخر العوض المحرم، وهو قاصد له غير مغرور، فإنه يتصدق بالعوض، ولا يجمع له بين هذا وهذا، فإنه إذا حرم أن يعطاه بثمن يؤخذ منه، فلأن يحرم أن يعطاه ويعطى الثمن أولى وأحرى، اللهم إلا إذا تاب، أو كان في إعطائه مصلحة فيجوز لأجله.

وعلى هذا فتجوز التجارة في الحلي المباح، بل ويجوز الأجل فيه إذا لم يقصد إلا الانتفاع بالحلية، لم يقصد كونها ثمنا، كما يجوز بيع سائر السلع إلى أجل، فإن هذه سلعة من السلع التي ليست ربوية " ا. هـ[انظر تفسير آيات أشكلت 2/ 622 - 632]

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير