فهذا التفصيل هو الراجح عندي إذ فيه توسعة عظيمة على المسلمين في يوم النّفر الأول لاشتداد الزحام ولتعجُّل غالب الحجاج، وفيهم بعض أصحاب الأعذار، وهو أقرب لروح الشريعة السمحة فيكون القول به أرجح في حال اشتداد الزحام اشتدادا يخاف منه على الحجاج كما هو حاصل في زماننا، وهذا القول يروى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. () وهو مذهب طاوس وعطاء و عكرمة من تلاميذ ابن عبّاس رضي الله عنهما فلعلهم أخذوه عن شيخهم ابن عبّاس و معلوم أن عطاء بن أبي رباح رحمه الله مكث سنين طويلة في عصر التابعين يفتي المسلمين في الحج، وكان أعلم الناس بالمناسك وهو فقيه أهل مكة.
وقد رجحت هيئة كبار العلماء في السعودية عدم جواز الرَّمي قبل الزوال أيام التشريق، ورجَّحوا جواز الرَّمي ليلة النحر من بعد منتصف الليل لأهل الأعذار ومن يقوم على شئونهم كما تقدم. ()
َوقد أجاب بعض فقهاء الحنفية القائلين بجواز الرَّمي في يوم النفر الأول عن حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ ضُحَى يَوْمِ النَّحْرِ وَحْدَهُ , وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ). بأن قالوا: صَارَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَخْصُوصًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ يعني حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: قلتُ: لكنه غير ثابت.و قيل: يُحْمَلُ فِعْلُهُ في الْيَوْمِ الْأَخِيرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. ()
و َعنْ وَبَرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ قَالَ: (إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ قَالَ كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا). في صحيح البخاري وغيره وقد تقدّم ذكره في هذه الرسالة. أقول في قول ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا للسائل: (إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ). و إعادته ذلك عليه، دليل يبين للمستنبط أنه كان يرى في الأمر سعة و يرى جواز الرَّمي قبل الزوال وإلا لبادر لأَمر السّائل بالتقيد بالرَّمي بعد الزوال ولم يقل له: (إذا رمى إمامك فارمه). ويكر عليه ذلك، فلا ريب بين في الرواية أنه لولا إلحاح السائل عليه لاكتفي بقوله الأول له، ومعلوم شدة ابن عمر في الحق و في تتبع السنن و الدعوة إلى صغيرها قبل كبيرها، ولكنه رأى الأمر واسعا.
فالرَّمي قبل الزوال بعد يوم النحر لا يصلح إلا في يوم النفر الأول وهو اليوم الثالث كما هو مذهب أبي حنيفة في رواية و أحمد في رواية، و مما يقوي ذلك في عصرنا أنه يكون في وقت اشتداد الزحام والمشقة تجلب التيسير، فالمشقة في الزحام الشديد في زماننا متيقَّنة فمتى تبين حصول المشقة والعنت، وكان معهما خوف مبرر من حدوث الإصابات والموت بالدَّهْس وغيره، فينبغي في نظري أن لا يُعدل عن الأخذ بالتيسير، فيترجح والحال كذلك جواز الرَّمي قبل الزوال دفعا للعنت و المشقة، وكل ذلك مستنبط من أدلة الشرع الوافرة ثم من ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لمن رخص لهم من الضَعَفَة و غيرهم في ترك المبيت بمِنَى و في التقدم لرمي الجمار قبل دفع الناس، مع علمنا بأن المشقة في زماننا بالزحام أشد و أكثر.
و الله الموفق للصواب بمنه و رحمته.
و أما القول بجواز الرَّمي مطلقا قبل الزوال كما هو قول عطاء و طاووس وعكرمة فلم أعوّل عليه مع أن التعليل بخوف شدة الزحام يشمله لأنه لم يأخذ به -من بعد من قال به من فقهاء التابعين- أحد من فقهاء الأمصار المتبوعين من الأئمة الأربعة وغيرهم، فنكصت عنه جبناً مع ما في النفس من الميل إليه تيسيرا و لعدم وجود دليل بالمنع هذا وهو مذهب من ذكرت من السلف.
وهنا الحواشي و المعذرة فقد نقلتها من الوورد و لم يتسع الوقت الليلة لتنسيقها في مواضعها:
(() صحيح البخاري: (3/ 677 رقم 1764).
() سنن أبي داود (2/ 201) ورواه أيضا البيهقي: (3/ 148).
() وبرة بن عبد الرحمن المسلي تابعي كوفي ثقة من رجال الشيخين: (تهذيب الكمال: 30/ 426).
() صحيح مسلم: (2/ 945).
() سنن أبي داود: (1971).
() سنن الترمذي: رقم: 894.
¥