ويمكن لمصطلح الطبقة أن يحمل معنى القيمة أو المرتبة الثقافية لدى أبي الطيب اللغوي (المتوفى سنة 351هـ/962م)، الذي يقول: فلان في طبقة من الجهل لا تدرك (14). ويمكن إبداء الملاحظة نفسها بخصوص ابن خلكان (المتوفى سنة 681هـ/1282م). ففي أثناء حديثه عن مكانة أبي الطيب التي اختلف الناس حولها يبدي الملاحظة التالية: والناس في شعره على طبقات (15). فالكلمة هنا لها معنى الجماعة أو الفئة (16).
ويُستخلص مما سبق أن مصطلح "طبقة" يعني، حسب العصر: طبقة، وقيمة، وجيل، واستحقاق، ودرجة، وجماعة. ويمكن له أن يعني أيضاً "طبقة اجتماعية". فالجاحظ في كتابه التاج في أخلاق الملوك، يقسم المجتمع الفارسي إلى أربع طبقات، ويوضح أن أزدشير الأول بن بابك حدد الذين ينتمون إلى كل طبقة (17):
الطبقة الأولى: الأساورة.
الطبقة الثانية: سدنة بيوت النار.
الطبقة الثالثة: الأطباء، والكتبة، والفلكيون.
الطبقة الرابعة: المزارعون وأصحاب المهن.
لذلك يورد في أثناء حديثه عن قواعد اللياقة التي ينبغي على زائري الملك التقيد بها في حضوره هذه الملاحظة: "إذا كان من الطبقة الوسطى فعليه أن يتوقف" (18).
إن مصطلح الطبقة بهذا المنظور مرادف لكلمة مرتبة، والجاحظ يورد الكلمتين متضايفتين في حديثه عن العامة والموسيقيين: "ينبغي أن نبين عن مراتب الطبقات الثلاث…" (19). ويورد ابن الساعي (المتوفى سنة 674هـ/ 1275م) في كتابه نساء الخلفاء، أثناء حديثه عن عنان الجارية هذه الملاحظة: "وأفضل من عُرف من طبقتها". ولا يبتعد هذا المعنى عن الدلالة الأصلية: جيل، طبقة، مستوى قول ابن رشيق: "ومن طبقة أبي نواس العباس بن الأحنف" (20).
ويمكن لمصطلح "طبقة" أو "طبقات" أن يدل أخيراً على الموهبة والقيمة: ونجد هذا المعنى عينه فيما اقتبسه الزركلي بشأن بديع الزمان الهمذاني: "طبقته في الشعر دون طبقته في النثر" (21).
وفي مجال تطور اللغة أسهمت كتب الطبقات على طريقتها في إيجاد مصطلحات مناسبة لمجالها ثم شاعت تلك المصطلحات. وتولدت سلسلة من العبارات أو المصطلحات التي لم تكن على الدوام جديدة، ولكنها اكتسبت معنى تقنياً.
ولما كان الاهتمام منصباً على تحديد الطبقات، فإن المصطلحات المخصصة لتحديدها هي التالية:
1 ـ طبقات الصحابة (22)، والمفرد طبقة مرادفة في بعض الأحيان كلمة عصر.
2 ـ طبقات التابعين (23).
3 ـ صغار التابعين.
4 ـ طبقات تابعي التابعين.
5 ـ تبَّع الأتباع.
وإذا كان مثل هذا التصنيف الذي لا يحدد إلا الأطر العريضة سهلاً نسبياً، فإن الأمر كان غير ذلك بمجرد أن ندلف إلى التفصيلات. ولتجاوز العقبات لجأ العلماء إلى تعبيرات جديدة. فللتعبير عن دخول طبقة ثانوية في أخرى أكثر أهمية منها استخدموا الموصوف حيز في مثل قولهم: "طبقة أخرى صغرى في حيز الطبقة التي قبلها" (24).
ولكي يعبروا عن تراجع رجال طبقة يحكمون بأنهم لا يستحقون طبقتهم، ولكي يشيروا إلى الفارق بينهم وبين رجال الطبقة الآخرين كانوا يستخدمون صيغة مثل: "ومن دانوهم…"، وهي العبارة نفسها التي يستخدمها أبو نُعَيم الأصفهاني (25).
وإذا كان من اليسير الإشارة إلى أن رجلاً مثل عبد الرحمن الهروي الأندلسي (المتوفى سنة 179هـ / 795م) من الطبقة الأولى (26)، فإن ما يظل مستعصياً هو إيجاد الفوارق الطفيفة في ترتيب الطبقات. والحال أن الاستمرارية في هذه الطبقات هي ما كانوا يودون الإشارة إليه؛ وفي هذه الحالة استخدموا حرف الجر عن. أما الترتيب فيُعبر عنه بالجذر نفسه: طبقتهم على طبقته (27)، أو بفعل عادي: جعلهم طبقة (28)، أو: جعلهم كتائب وطبقات (29).
ونجد في سياق آخر عدداً من العبارات الجامدة التي تشير إلى الانتقال من طبقة إلى أخرى، مثل: بداية المريد نهاية شيخه (30). ومثل: ينتقل العلم من طبقة إلى طبقة (31). وينبغي ألا يغيب عنا أن الجذر ط. ب.ق. يدل على التغطية أولاً وثانياً، وعلى أن يكون الشيء عاماً، وعلى إدراك كل شيء. وينصرف الذهن عند سماعه إلى الطبقات المتراكبة، وإلى السلسلة، وإلى الفئة. وقد كان هذا الجذر مناسباً كل المناسبة، وبما لا مزيد عليه لتعيين الأجيال المختلفة بمراتبها ودرجاتها. وإذا صح أن مصطلح "طبقة"، بوصفه اسماً موصوفاً، كان منذ فجر الإسلام شائع الاستخدام، فكان الناس يقولون: فلان من طبقة أبي حنيفة أو طبقة
¥