وننبه هنا إلى أمر مهم، وهو أن المقصود من رمي الجمار هو ذكر الله تعالى، وامتلاء القلب بروح المشاهد والمناسك، وليس هو مجرد فعل ظاهر خال من الخشوع والخضوع والانقياد والاستسلام، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: إنما جعل الطواف بالكعبة وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل "
وكثير من الناس يفرط في هذا المقصد العظيم، الذي لأجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وفرض الجهاد، قال تعالى: " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز "
* قال الغزالي: " وأما رمي الجمار، فاقصد به الانقياد للأمر إظهارا للرق والعبودية، وانتهاضا لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه، ثم اقصد به التشبه بإبراهيم ـ عليه السلام ـ حيث عرض له إبليس ـ لعنه الله تعالى ـ في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة، أو يفتنه بمعصية، فأمره الله ـ عز وجل ـ أن يرميه بالحجارة طردا له وقطعا لأمله.
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به، فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان.
واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ تعظيما له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه "
* قال ابن جماعة:
" وانو عند رمي الجمار أنك رميت عيوبك وسالف ذنوبك، وأقلعت عنها "
ولذا فإن العلماء كرهوا جميع ما يلهي عن ذكر الله تعالى، أو يفضي إلى الإلهاء عنه، حتى ولو كان الشيء في أصله مباحا، ومما ذكروه في هذا الجانب تقديم الأمتعة إلى مكة قبل النفر، فكره العلماء ذلك، لأن الذهن ينشغل بالمتاع ويكون معه، وفي هذا من التشويش على العبادة ما هو معلوم، وكذا نقول هنا فيمن يوكل ثم يخرج قبل الزوال أو بعده وقبل رمي الوكيل، أين من يفعل هذا من ذكر الله تعالى؟!!!!
وأين هو من السكينة والخشوع المطلوبين عند أداء العبادة؟!!!!
* قال أبو بكر محمد بن علي الحدادي العبادي الحنفي:
" (قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ ثَقَلَهُ إلَى مَكَّةَ وَيُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ) ثَقَلَهُ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْقَافِ وَهُوَ مَتَاعُهُ وَخَدَمُهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ إتْمَامِ سُنَّةِ الرَّمْيِ وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ حَوَائِجِهِ خَلْفَهُ وَيُصَلِّيَ مِثْلَ النَّعْلِ وَشِبْهِهِ لِأَنَّهُ يُشْغِلُ قَلْبَهُ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا لِأَنَّ قَلْبَهُ حَيْثُ رَحْلُهُ وَمَتَاعُهُ "
* قال عبد الرحمن بن محمد شيخي زاده الحنفي (الشهير بداماد):
" (وَكُرِهَ تَقْدِيمُ ثَقَلَهُ) الثَّقَلُ بِفَتْحَتَيْنِ الْمَتَاعُ الْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْجَمْعُ أَثْقَالٌ (إلَى مَكَّةَ قَبْلَ نَفْرِهِ) ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ وَهُوَ فِي الْعِبَادَةِ فَيُكْرَهُ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ أَمْتِعَتِهِ بِمَكَّةَ وَالذَّهَابُ إلَى عَرَفَاتٍ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْنِ عَلَيْهَا بِمَكَّةَ أَمَّا إنْ أَمِنَ فَلَا لِعَدَمِ شَغْلِ الْقَلْبِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. "
وقد تقدم ذكر ما استحبه المالكية وغيرهم من تكبير الموكل عند رمي الوكيل، بل واستحب بعضهم حضوره عند الرمي ليرى ذلك بنفسه، ويكثر من ذكر الله عنده.
* قال الشيخ أحمد الدردير العدوي المالكي:
" (وَيَسْتَنِيبُ) الْعَاجِزُ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِرَمْيِ النَّائِبِ وَفَائِدَةُ الِاسْتِنَابَةِ سُقُوطُ الْإِثْمِ (فَيَتَحَرَّى) الْعَاجِزُ (وَقْتَ الرَّمْيِ) عَنْهُ (وَيُكَبِّرُ) لِكُلِّ حَصَاةٍ كَمَا يَتَحَرَّى وَقْتَ دُعَاءِ نَائِبِهِ وَيَدْعُو "
وكل هذا يدل على حرص الشرع على كمال التعبد، والقيام بوظائف الفرائض على الوجه الأكمل، فيؤتى المرء إذا واظب على ذلك ثمار التعبدات، وينعكس ذلك على سلوكه، فترى آثار الطاعات قد عمت حياته، وملأت أركانها.
خاتمة
وبعد هذه التطوافة العجلى بين كتب الصالحين، وأنفاس المحققين والمدققين، لا يسعني إلا أن أدعو الله تعالى بأن يوفق العاملين لدينه، وأن يرزقنا الفهم لكتابه ولسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن يرزقنا النية الصالحة في جميع الأعمال، والعزيمة الصادقة في طلب العلم والعمل، وأن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، فثمرة العلم ولبه الخشية.
وَحَاصِلُ الْعِلْمِ مَا أُمْلِي الصِّفِاتِ لَهُ فَأَصْغِ سَمْعَكَ وَاسْتَنْصِتْ إِلَى كَلِمِ
وَذَاكَ لاحِفْظُكَ الْفُتْيَا بَأَحْرُفَهَا وَلاَ بِتَسْوِيدَكَ الأَوْرَاقَ بِالْحُمَمِ
وَلاَ تَصَدُّرُ صَدْرِ الْجَمْعِ مُحَتَبِيًا تُمْلِيهِ لاَ تَفْقَهُ الْمَعْنِيَّ بِالْكَلِمِ
وَلاَ الْعِمَامَةُ إِذَا تُرْخِي ذُؤْابِتَها تَصَنُّعًا وَخِضَابُ الشَّيْبِ بِالْكَتْمِ
وَلاَ بِقَوْلِكَ: "يَعْنِي" دَائِبًا وَ"نَعَمْ" كَلاَّ وَلاَ حَمْلُكَ الأَسْفَارَ كَالْبُهَمِ!
وَلاَ بِحَمْلِ شَهَادَاتٍ مُبَهْرَجَةٍ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ مِنْ نَثْرٍ وَمُنْتَظَمِ
بَلْ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي سِرٍّ وَفِي عَلَنٍ فَاعْلَمْ هِيَ الْعِلْمُ كُلَّ الْعِلْمِ فَالْتَزِم
علي محمد محمد ونيس
الدوحة ـ قطر
4 من شهر ذي الحجة / 1425 هجرية
¥