قلت: بقصد زيادة التقرب إلى الله خرجت البدع الدنيوية؛ كالسيارات، والبارود، والطائرات، وتصنيف الكتب، وأشباه ذلك، فكلها وسائل مشروعة؛ لأنها تؤدي إلى ماهو مشروع بالنص، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة، لا البدعة الدنية، وهذا كما يقال: " مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب "، وليس كما قال عبدالعزيز بن عبدالسلام في تقسيم البدع الدينية إلى خمسة أقسام (2).
قال الإمام الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ:
" وقد ذكر الإمام ابن تيمية في كتابه " اقتضاء الصرط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة فقال:
كل مُحدث يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم يدور على مايأتي:
أولاً: إما أن يكون هذا المحدث كان المقتضي لا حداثه قائماً في عهد النبي ـ عليه السلام ـ ولم يفعله ـ كالمثال السابق (يعني: الأذان لغير الصلوات الخمس) ـ فالأخذ بهذه المحدثة حينئذ ابتداع في الدين.
ثانياً: وإما أن يكون المقتضي لهذا المحدث غير قائم في عهد النبي ـ عليه السلام ـ، وإنما وجد فيما بعد، فحينئذ نظرنا:
* إذا كان السبب لهذا المفتضي ـ الحادث بعد الرسول عليه السلام ـ هو تقصير المسلمين في القيام بأحكام الدين، فلا يجوز الأخذ بهذا المحدث.
مثال ذلك: الضرائب، فالمقتضي لتشريعها هو تعطيل بعض الأحكام الشرعية أي: الزكاة ونحوها التي هي مورد خزينة الدولة، فلا يجوز الأخذ بهذه الضرائب لأن المقتضي لفرضها نتج بسبب إهمال المسلمين وتقصيرهم لأحكام الزكاة.
* إذا لم يكن الواقع لهذا المقتضي هو تقصير المسلمين، فحينئذ يجوز الأخذ بما يستلزمه هذا المقتضي من الأمر المحدث (3).
وهنا يأتي بحث المصلحة المرسلة، والفرق بينها وبين االبدعة المحدثة:
أن المصلحة المرسلة لا تكون من باب الزيادة في التعبد في الدين، وإنما هي تحقق مصلحة للمسلمين ليس لها علافة بزيادة التقرب في الدين.
مثال: لو أن رجلاً ميسوراً قوي البنية، يستطيع أن يسافر بالطائرة أو السيارة إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، لكنه يقول أنا أريد أن أحج إلى بيت الله الحرام مشياً على الأقدام ... ويقول هذا أفضل، فهذا بدعة.
أما من لا يستطيع أن يركب شيئاً من هذه المركوبات، ويستطيع أن يحج مشياً على الأقدام فهذا واجب عليه لعموم قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (آل عمران: 97).
وقد كان الرسول ـ عليه السلام ـ أقوى الرجال، وكذلك سائر أصحابه الكرام، لكنهم لم يحجوا على أقدامهم، وإنما حج الرسول ـ عليه السلام ـ وأصحابه على النياق .. فمن ذا الذي يستطيع أن يدعي بأن النبي ـ عليه السلام ـ لم يكن عنده تلك الرغبة الكبيرة في التقرب إلى الله بما شرع، فترك الحج على الأقدام وهو يستطيعه.
والطائرة من الأمور المحدثة .. ولكنها تدخل في المصالح المرسلة؛ لأنها تسهل على الناس الحج إلى بيت الله الحرام.
قال مبارك كان الله له: كذلك فرش المساجد بالسجاد المعروف اليوم (بالشروط التي ذكرتها سابقاً) تدخل في باب المصالح المرسلة، لأنها تسهل آداء الصلاة، لاسيما وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى على حصير، وبساط، وخمرة.
قال أبوعبدالرحمن: لا بد من التفريق بين (حكم الشرع) و (واقعة حكم الشرع).
فكل حكم لم يرد به الشرع أو يعارضه فهو بدعة.
أما الواقعة فإن أقرتها أحكام الشريعة فنعمت البدعة، وإن رفضتها فهي البدعة المحرمة.
وأقصد بالواقعة هو مايعرف في أصول الفقه بالمصالح المرسلة التي يتحقق منها مصلحة عامة لجميع الأفراد وليس لفرد.
أما استرواحي لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة الكبار ابن باز والألباني وابن عثيمين للمعطيات التي ذكرتها وليس كون اجتماعهم على مسألة ما هو إجماع.
في الختام اشكر الشيخ الفاضل النبيل ابن وهب لما يتمتع به من خلق رفيع وأدب جم ولما يتحفنا به من غرر الفوائد وجميل العبر.
وكذلك اشكر جميع الإخوة الفضلاء النبلاء الذين اسهموا في إثراء الموضوع غاية الشكر والتقدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاعتصام: الشاطبي (1/ 37).
(2) البدعة وأثرها السيء في الأمة: سليم الهلالي (ص11).
¥