* يرد عليه: ما جاء في أحاديث كثيرة، من – مثلاً – إنشاد الشعر، والتحدث في أمور الجاهلية، والنوم فيه، ولعب الحبشة، وقضاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين كعب، وابن أبي حَدْرَدْ، وربط الأسير المشرك فيه، ونوم أهل الصفَّة فيه؛ بل وأجاز بعض أهل العلم الحدث في المسجد إذا لم يكن هناك تلويثٌ، ولا إضرارٌ بمن حوله 4 فهل هذه الأشياء، وغيرها مما بنيت له المساجد؟!
فالأولى: حمل كلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث، على التوجيه والإرشاد إلى أصل الحكمة التي بنيت من أجلها المساجد، لا على قصرها على ما ذكر.
القول الثاني: أن الكلام المباح في المسجد، لا بأس به، إذا لم يكن هناك تشويشٌ على المتعبدين، وذلك لما يلي:
1 – حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يقوم من مصلاه الذي صلَّى فيه الصبح، حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، قال: وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم 1.
* يرد عليه: أن كلامهم في أمور الجاهلية كان لتذكر نعمة الإسلام، وما امتن الله عليهم به.
* يجاب عنه: أن هذا غير مسلم، لأمور:
1 – أن هذا مخالفٌ لفهم أهل العلم، قال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/ 646): [قوله: ((وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية)) دليل على جواز التحدث بأخبار الزمان، وأمور الأمم ... 2].
قال النووي – رحمه الله – في المجموع (2/ 204): [يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد، وبأمور الدنيا، وغيرها من المباحات، وإن حصل فيه ضحكٌ ونحوه، ما دام مباحاً، لحديث جابر بن سمرة ... ].
2 – أنَّ هذا لو كان صحيحاً، لقال: فيحمدون الله على ما هداهم، ويشكرونه، لا أنهم يتضاحكون.
3 – إنشاد حسان بن ثابت – رضي الله عنه – الشعر في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإقراره – صلى الله عليه وسلم – له 3.
* يرد عليه: أن هذا ليس من أمور الدنيا، أو المباحات؛ بل مما يتقرب به إلى الله، لما فيه من الذب عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، والرد على المشركين، والمنافقين.
* يجاب عنه: بأن كعب بن زهير – رضي الله عنه – كما تقدم، أنشد شعراً عند الرسول – صلى الله عليه وسلم –وفيه ذبٌ عنه، وراجع كلام السفاريني في غذاء الألباب (1/ 184).
4 – عن أنس – رضي الله عنه – قال: وجدت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد معه ناس، فقمت، فقال لي: " أرسلك أبو طلحة "؟ قلت: نعم فقال: " لطعام "؟ فقلت: نعم، فقال لمن معه: " قوموا "، فانطلق، وانطلقت بين أيديهم4.
وجه الاستدلال: قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 616): [والغرض منه: أنَّ مثل ذلك من الأمور المباحة، ليس مما يمنع في المساجد].
5 – تفسير الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد صلاة الصبح، للرؤى5.
وجه الاستدلال: أن تفسير الرؤى ليس من الأمور الدينية، أو التعبدية؛ بل هو إلى الأمور العادية الدنيوية ألصق.
6 – معلومٌ أن المسجد هو مكان اجتماع المسلمين، وملتقاهم، وكان مأوى أهل الصفة، وغير ذلك من الأمور التي ليست من قبيل العبادات؛ بل من الأمور الدنيوية البحتة.
الراجح: أن الكلام في الأمور المباحة، جائزٌ، لا بأس به، إلا أن الأولى تنزيه المسجد عنه، وعدم الإكثار منه، بحيث يكون مقراً للجلسات، والاجتماعات، وعلى هذا يحمل ما تقدم من أدلة المانعين، وبه تجتمع الأدلة – إن شاء الله -، والله أعلم 1.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 376): [ويسن أن يصان عن لغطٍ، وكثرةِ حديثٍ لاغٍ، ورفع صوتٍ بمكروه، وظاهر هذا: أنه لا يكره إذا كان مباحاً، أو مستحباً، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي – رحمهما الله - ... ] 2.
القسم الثاني: حكم الكلام المباح، وذلك برفع الصوت:
القول الأول: المنع من رفع الصوت في المسجد بالكلام المباح، ويستدل لهم بجميع الأدلة التي ذكرت في مبحث: حكم رفع الصوت بالكلام المشروع، ويزاد هنا:
1 – حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا ".
وجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بالدعاء على ناشد الضالة بعدم وجدانها، وذلك لأنه رفع صوته، على ما سيأتي تحريره.
2 – أن الكلام المشروع إذا كان منهياً عنه، فغيره من الكلام أولى.
3 – بناء عمر – رضي الله عنه – للرحبة، وقال: " من أراد أن يلغط، أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة ".
4 – أن ترك رفع الصوت بالكلام المباح، أبرأ للذمَّة، وهو الذي عليه أكثر العلماء.
القول الثاني: أن رفع الصوت في المسجد، لا بأس به، ويستندون إلى حديث كعب بن مالك مع ابن أبي حَدْرَدْ المتقدم، وهو مما يَرِد على الأدلة السابقة، وتأويل بعض العلماء له، يحتاج إلى نظرٍ وتأمل.
الراجح: أن رفع الصوت بالكلام المباح، أقل أحواله الكراهة1، وقد يصل إلى التحريم في بعض المسائل، مثل: إذا كان فيه تشويش على المتعبدين، وكإنشاد الضالة، ونحوهما والله – تعالى – أعلم 2.
¥