ثم على التنزل مع محمد الأمين في عد هذا خبرا يحتمل الصدق والكذب – وهو ليس كذلك - فما الذي يؤكد لي أن هذا الخبر مخالف لما هو حاصل في نفس الأمر، بحيث يسمى كذبا، و الحال أن القرائن القوية التي في المقال تغلب جانب الصدق في تفسيري لما حصل أكثر من الكذب، فالمقام هنا مقام احتمال، وأهل العلم هنا يقولون في رد ذلك: لا نسلم بذلك – مثلا – يشيرون إلى المطالبة بالدليل تارة، أو إلى الخطأ في النقل تارة، وإلى التوقف تارة، فإذا أغلظوا في الرد قالوا: ليس كذلك، أو ليس بصحيح، ولا يصرحون بالكذب لما في المقام من الاحتمال.
فإذا تنزلنا أكثر، وقلنا: إن هذا خبر مخالف للواقع، فهو كذب وإن كان خطأ بناء على تعريفهم للكذب = فهو لا يضر، ولا يقتضي ذما ولا عيبا، فضلا عن أن يثبت به كون أكثر ما في التعليقات كذب مثله، لأنه حاصل عن اجتهاد في تفسير تغيير في نص، سببه صاحب المقال، وفي كلام الشيخ الطاهر ابن عاشور المتقدم في الكلام على الكذب مصداق هذا، وقد قال الإمام أبو العباس القرطبي – صاحب المشايخ المجاهيل – في المفهم 1/ 107: ( .. غير أن المحرم شرعا، المستقبح عادة هو العمد المقصود إلاّ ما استثني).
فكيف يستطيع أن يثبت محمد الأمين كذب هذا، فضلا على إثبات العمد فيه؟ حتى يكون كذبا قبيحا، ثم يزيد ويحكم به على أكثر ما في التعليقات، فليس بيني وبينه عداوة سابقة، ولا يعرفني ولا أعرفه، وليس لي مصلحة في الكذب عليه، وليس هو بالرجل الخطير ولا المهم، حتى يصبح الكذب عليه ذا معنى. فلم يبق إلا مسألة التعصب للإمام، وسيأتي الجواب عليها مفصلا قريبا – إن شاء الله – بل هناك من الدلائل والقرائن ما يشير إلى عكس ذلك تماما، وهو أني راسلته أكثر من مرة أنبهه للأخطاء العلمية في مقاله، وكتبت في أحد الروابط مبينا لبعض التحريفات، فلم يرجع أو يرعوي إلى لحظتنا هذه، وأكبر من ذلك أني رغم وقوفي على كل التغييرات الحاصلة في بعض النصوص، وغير ذلك مما يأتي ذكره = لم أصرح أو أجزم بنسبة محمد الأمين إلى الكذب أو غيره، وقد كان عندي في ذلك برهان وأي برهان لو أردت.
ثم إنه في مرحلة من المراحل صرح لي بأنه يحب مناقشتي، وهذا يدل بجلاء على أنه ليس بيني وبينه أي سوء، وكان الأمر يستمر كذلك لولا كلاماته الآثمة هذه، والتي سيعلم من في الملتقى – قريبا - من هو أحق بها وأهلها، فصبر جميل، والله المستعان.
ثم إذا تبين كل ذلك، فبأي الاحتمالات أخذنا، فسقوط ألفاظ الافتراء والبهتان أقرب وأولى سقوطا وتهافتا، من سقوط وتهافت لفظ الكذب لما علم من اشتراطهم فيها أكثر من مجرد مخالفة الخبر لما هو حاصل في نفس الأمر، ووجه ذلك ودلالته ظاهرة لكل ذي عينين.
والآن فلننظر في بعض ما جاء في مقال محمد الأمين عن الإمام مالك – رحمه الله – وليحكم أهل الحديث على هذا الكلام بما يليق به، من حيث صدقه وكذبه، أو افتراؤه وبهتانه، أو خطؤه وصوابه.
فأول شئ يوجد في المقال التغيير الحاصل في عدة نصوص نقلها، وبعد جهد قام بإصلاح بعضها، وأبقى الآخر إلى الآن، بل إن بعض ما أصلحه عاد في موطن آخر – غير المقال - وذكره محرفا.
ومن ذلك استدلاله بروايات موضوعة أو ضعيفة، وقد بينت له وجه ذلك، ومع هذا يبقيها في مقاله محتجا بها، ولم يأت عنه رد يفيد عدم حجية ما ذكرته له.
ومن ذلك بتره للنصوص وحذفه منها ما يخالف مراده، بل ما ينقضه أحيانا. وهذا مستمر.
ومن ذلك إخفاؤه لعشرات النصوص المخالفة لكل الدعاوى في مقاله في حق الإمام ظلما وجهلا.
ومن ذلك تقوّله على أهل العلم ما لم يقولوا، وذلك في مواطن، ولا زال مستمرا في ذلك.
ومن ذلك استغلاله لبعض الأخطاء المطبعية في بعض الكتب، وبعض الأخطاء في نسبة عبارات لعلماء لا تصح عنهم ووضعها في مقاله حتى بعد بيان ذلك له.
ومن ذلك إتيانه بدعوى معينة، واستدلاله عليها بأدلة دعوى أخرى، كما وقع في دعوى رد عمل أهل المدينة واستدلاله بكلام ابن حزم.
وهذه بعض عباراته أذكرها نماذج لما سبق، وما تركته أكثر.
قال عن سبب اختلاف الروايات في تاريخ ميلاد الإمام مالك: وقد يرجع أسباب الاختلاف إلى اعتقاد البعض أن أم مالك حملته في بطنها ثلاث سنين!
وقال عن كلمة قالها الإمام مالك (الدجاجلة): وظاهر أنها لحن.
وقال عن عائلة الإمام: لم يكن أنس والد الإمام مالك معروفاً حيث لم يُذكر عن حياته – كذا - في كتب التاريخ، ولم يكن مالك من أسرة علمية، إلا أن عمه كان مقرئاً
وقال عن الإمام – رحمه الله -: ومع ذلك تجده قد أفتى ببعض الأحكام الشرعية بعنصرية.
وقال عنه أيضا: أصبح الإمام مالك فقيهاً وأخذ يفتي، وتعرض لكثير من السخرية لمخالفته من هم أعلم منه.
وقال: بالمقابل فقد قال أتباع مالك كلاماً كثيراً فيه بلغ حد المبالغة. حيث قالوا أنه مكتوب على فخذ مالك أن مالكَ حُجّة الله!
فهل كل أتباع مالك قالوا ذلك؟ قال الراعي الأندلسي في [انتصار الفقير السالك] عن هذه الحكاية ص 171: لم أقف عليه، ولم ينقل من وجه يعتمد عليه.
وقال: وقال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث "البيعان بالخيار". فقال: «يُستتاب. فإن تاب، وإلا ضربت عنقه». ثم قال أحمد: «هو أورع وأقوَلُ بالحق من مالك». أي أن أحمد موافق لفتوى ابن أبي ذئب في استتابة مالك.
وقال: وكان مالك قد أفتى بجواز ضرب المتَّهم، فلقي أثر تلك الفتوى الاستحسان لدى الخلفاء العباسيين
وقال: فلما أتاهم ابن حزم وناظر كبرائهم في الأندلس والمغرب. فأين يجد أنه ناقش أهل المغرب؟ ليثبت لنا هذا.
وقال: وكما أجرى تلامذة أبو حنيفة تعديلات على مذهبه، فعل كذلك تلامذة مالك تعديلات على مذهبه، أمثال أسد بن الفرات وعبد الملك بن حبيب ومحمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندري (انظر مقدمة ابن خلدون ص285، ط دار الهلال). وقد أضافوا له الكثير من الأقوال والمعتقدات الفاسدة التي حاربها ونص على خلافها. فزعموا أنه يجيز شد الرحال لزيارة القبر النبوي، مع أنه نص على خلاف ذلك. ونسبوا له تجويز التوسل بالأموات، وهو كذب عليه. ونقلوا أنه قال: «من تفقه ولم يتصوف فقد تزندق!!»، ولم يكن قد عرف مصطلح التصوف في المدينة في زمنه [/.
يتبع – إن شاء الله -.
¥