تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

صبغة شرعية، ومن ثم تبوأت هذه اللفظة منزلة كبيرة في نقل دلالتها من المعنى اللغوي، إلى المعنى الشرعي، في ظل تغيير القيم الفكرية، والعادات الجاهلية. وقد جعل ابن فارس باباً خاصاً في كتابه الصاحبي) أسماه: باب الأسباب الإسلامية) (16)، أردفه بباب آخر في نفس الكتاب أسماه: باب آخر في الأسماء)، جاء فيه: "وكُره أيضاً أن يقال: استأثر الله بفلان" (17).

وخلاصة القول: أن لفظة الاستئثار) تعني- في أغلب دلالتها-: الاستبداد، والتفرد، وإيثار النفس على ما سواها. ومثل هذه الدلالات تُعد مذمومة في عُرف الناس؛ لأنها ليست من الصفات المحمودة، وبالتالي وجّه الشارع الحكيم إلى ترك استخدامها، وهجر التلفظ بها؛ لأن قول القائل: إن الله مستأثر بكذا- على الرغم من قوّته وعظمته سبحانه-، فيه دلالة جاهلية؛ لأن الله تعالى قد ساوى بين عباده، كل حسب طبقته، وحسب عمله، خاصة في الأمور المحتمة التي لا تقتضي المفاضلة، مثل: حقيقة الموت التي وُجّه إلى استخدام التعبير بها في الحديث السابق، على الرغم من تفاوت حالة الأموات عند موتهم وبعده، حسب منزلتهم الرفيعة عند الله، وحسب أعمالهم، فهناك طبقة أولي العزم من الرسل، وطبقة الأنبياء، وطبقة الشهداء، وهناك طبقة أقوياء الإيمان، وطبقة ضعافه، وطبقة الكفار والملحدين. ومع هذا كله فإنك لا تجد التعبير بلفظة الاستئثار) في حالة موت تلك الطبقات؛ لأن التعبير السائد في مفارقة الحياة، يكمن في شيوع لفظة الموت). وفي هذا نقل لدلالة الاستئثار) من معناها اللغوي الضيّق، إلى معنى أوسع وأشمل، هو التعبير بلفظة الموت)، والذي اكتسب دلالة توسعية من خلال توجيه الشارع الحكيم، ومن خلال عموم دلالته على مفارقة كل ذي روح لهذه الحياة، على حد قول المتنبي:

نحن بنو الموتى فما بالُنا

نعاف ما لا بدَّ من شُرْبه (18)

2 - جنن الجنون): من الألفاظ الشائعة في استخدام ومفهوم العامة والخاصة: لفظة الجنون)، والذي هو: "اختلال العقل، بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادراً" (19)، "واختلاف القوة المميَّزة بين الأمور الحسنة والقبيحة، المدركة للعواقب، بأن لا يظهر أثرها ويتعطل أفعالها، إما بالنقصان الذي جُبل عليه دماغه في أصل الخلقة، وإما بخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال، بسبب خلط أو آفة، وإما لاستيلاء الشيطان عليه وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه، بحيث يفزع من غير ما يصلح سبباً" (20). وباختصار: فإنه حائل بين النفس والعقل (21)، يترتب عليه زوال العقل، أو فساد فيه (22).

وقد كان لدلالة هذه اللفظة وقع كبير في قاموس الهدي النبوي؛ نظراً لبشاعة معانيها، وكثرة مستخدميها، فجاء التوجيه النبوي الكريم بالدعوة إلى الاستبدال بهذه اللفظة مجنون)، لفظة مُصاب)، فقد رُوي عنه --[أنه رأى رجالاً مجتمعين على إنسان، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مجنون. قال: هذا مصاب، وإنما المجنون الذي يضرب بمنكبيه، وينظر في عِطْفيه، ويتمطّى في مشيته] (23).

والذي حدا به- - إلى التوجيه باستبدال لفظة مصاب) مكان التعبير بلفظة مجنون)، هو وجود دلالتين لالجنون): دلالة لغوية، وأخرى شرعية، فالدلالة اللغوية تنص على أن المجنون) من أُصيب باختلال في عقله، بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادراً (24)، ومن بُلي بوجود حائل بين نفسه وعقله (25)، ومن [يضرب بمنكبيه، وينظر في عِطْفيه، ويتمطى في مشيته] (26). وكل هذه الدلالات تُطلق عند العرب في حالة ظهور الجِنة والجنون (27). أما الدلالة الشرعية لالمجنون): فهو المقيم على معصية الله، كما أشار إلى ذلك رسولنا- عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه أنس- رضي الله عنه- قال: [مرّ رجل فقالوا: هذا مجنون، فقال رسول الله- -: المجنون المقيم على معصية الله، ولكن قولوا: مصاب] (28).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير