تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والذي يظهر: أن الجامع بين الدلالتين اللغوية والشرعية: هو معنى التستّر والإخفاء؛ لأن الجنون بمعنى ذهاب العقل، ما هو إلا من قبيل باب الستر (29)؛ لأن العرب قد تصورَّت أن الجن- وهي بطبيعتها متخفية مستترة- قد داخلت ذلك المصاب، فسلبته عقله واستقرت في رأسه (30)، ولذلك أُطلقت الجِنّة على الجنون، كما في قوله تعالى: [أم يقولون به جِنّة] (31). وإنما جاءت الجِنّة اسماً للجنون؛ قياساً على علة اسماً للاعتلال (32)، وقياساً على التلازم؛ لأن العرب إذا قالت: جُن وسُل، فإنما يريدون: جُعل فيه الجنون والسل (33).

وكما إن الجنون) يعود في مدلوله اللغوي إلى معنى التستّر والإخفاء والتغطية، فكذلك الحال مع من يقيم على معاصي الله، فإنه يحاول جاهداً أن يكون مستتراً عن أنظار الناس، بعيداً عن أماكن تجمعاتهم. أما ذكر لفظة مصاب) مكان لفظة مجنون)؛ فلما لها من دلالة واسعة، إذ يقال: رجل مصاب في عقله صابة، أي: فيه طرَف من الجنون (34)، وهو مصاب ببصره وعقله (35)، والمصاب: مَن يصاب بأذى (36).

ولعل القيمة الدلالية في توجيه النبي- - إلى التعبير بلفظة مصاب)، مكان التعبير بلفظة مجنون)، تبرز في تحاشيه لتوظيف دلالات الجنون في هذا الموضع، والتي منها- إضافة لما سبق ذكره-: العُجْب بالنفس، كما في الحديث: [لو أصاب ابن آدم في كل شيء جُنّ]، أي: أُعجب بنفسه حتى يصير كالمجنون من شدة إعجابه. وحديث: [اللهم إني أعوذ بك من جنون العمل]، أي: من الإعجاب به (37)، ومنه قول الشنفرى في المرأة:

فدقَتْ وجلتْ واسبكرَّت وأُكلمتْ

فلو جُن إنسانٌ من الحُسْن جُنَّتِ (38)

وخلاصة القول: أن توجيه النبي- - للفظة الجنون)، وجعل لفظة مصاب) مكانها، أكسب لفظة الجنون) دلالة شرعية خاصة: المقيم على معصية الله)، إضافة إلى دلالتها اللغوية التي حفلت بها كتب اللغة والمعاجم - كما رأينا ذلك من قبل-، وإنما عَدل بها- عليه الصلاة والسلام- إلى التعبير بلفظة مصاب)؛ لما في ذلك من مراعاة حال المُخْبَر عنه، من حيث تعدُّد الوصف بلفظة مصاب)، فهناك المصاب في دينه، والمصاب في عِرْضه، والمصاب في جسده وبدنه، وهكذا. فنظراً لتوسُّع دلالة هذه اللفظة، ونظراً لحرص الشارع الحكيم على زرع المفاهيم الصحيحة، والتعابير الجميلة، جاء توجيهه- عليه الصلاة والسلام- لإيثار لفظة مصاب) على لفظة مجنون)، والتي غلب إطلاقها على المشركين المعارضين للرسُل (39).

3 - خبث الخُبْث): إن من الألفاظ المستهجنة، والأوصاف المستقبَحة: لفظة الخُبْث والخبيث)، والتي تعني: ما يُكره رداءة وخساسة، محسوساً كان أو معقولاً. وأصله: الرديء الدُخْلة، الجاري مجرى خبَث الحديد. وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال (40). وقال ابن الأعرابي: "أصل الخُبْث في كلام العرب: المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من المِلل فهو الكُفْر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار" (41). وقد وجَّهنا رسولنا- عليه الصلاة والسلام- إلى ترك استخدام هذه اللفظة؛ نظراً لما تحويه من دلالات لغوية غير مستساغة، وأرشدنا إلى استخدام لفظة أخرى، ألا وهي لفظة لقِسَت)، من ذلك ما روته عائشة- رضي الله عنها- عن النبي- كانت هاتان اللفظتان خُبُثت ولقِست) ذواتي دلالة لغوية واحدة في أصل وضعهما (42)، فيا تُرى ما القيمة الدلالية لتوجيهه- عليه الصلاة والسلام- إلى الأمر باستخدام لقِست نفسي)، بدلاً عن النهي الوارد في الحديث خبُثت نفسي)؟

إن القيمة الدلالية لذلك تعود إلى ما أجمع عليه أهل اللغة، وأهل غريب الحديث، وغيرهم: من أن لقِست وخبُثت تعودان في اصل وضعهما إلى معنى واحد، وإنما كره- - التعبير بلفظ الخُبث)؛ لبشاعة الاسم، والحرص على تعليم الأدب في الألفاظ، واستعمال حسَن الألفاظ، وهجر قبيحها، وإبدال اللفظ المكروه بأحسن منه. وإنما أخبر الرسول- عليه الصلاة والسلام- عن الذي ينام عن الصلاة بأنه خبيث النفس كسلان؛ لأن ذلك الخبر عن غيره، وعن شخص مبهم مذموم الحال لا يمتنع إطلاق هذا اللفظ عليه. كما أن في توجيهه- عليه الصلاة والسلام- دعوةً إلى قبول المرء للخير بألفاظ الحُسن، وإضافة الخير إلى نفسه- ولو بنسبة محدودة- ودفع الشر عن نفسه مهما أمكن، وقطع الصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير