تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والزرّاع والفلاح115)، كما أن الحرْث الزرع بعينه، وربما سُمي الإصلاح للزرع حرثاً. والأول أعلى116).

وهذه الدلالات تفصح عن تعليل إيثار الحرث على الزرع؛ لأن الحرث من اختصاص العبد، والزرع من اختصاص الله تعالى، ولذا قيل: العبد يحرث، والله يزرع. أما قول القائل: زرع الزارع الأرض، فهو من باب إسناد الفعل إلى السبب مجازاً117).

وعلى هذا: فإن دلالة الحرث أوسع وأشمل؛ لأن الحرث لا يعني شق الأرض وإثارتها للزراعة فحسب، بل يعني بذر الحب أيضاً118)، كما أنه يقع على كل ما يُحرث ويُزرع من أصناف النبات119)، ومحل نماء الزروع والثمار120). وهذه الدلالات أكسبت لفظة الحرث) قيمة دلالية، إذ تُعد من قبيل المشترك اللفظي، الذي يحمل في طياته معاني عدة، إذ يُقال للعمل في كل شيء: حرث121)، فالعمل في الأرض حرث، ومتاع الدنيا حرث، والثواب حرث، وإشعال النار حرث، والتفتيش عن الشيء حرث، والزوجة حرث122)، والزرع نفسه حرث123).

والذي يظهر: أن الحرث خلاف الزرع؛ لأن الحرث يبدأ بتهيئة الأرض وما بُذر فيها للزرع124)، أما الزرع فهو مرحلة لاحقة للحرث، ولا يسمى زرعاً إلا وهو غض طري125)، ولهذا فإنه يغلب على لفظتي الحرث والزرع) اعتبارهما من قبيل الفروق اللغوية؛ لأن الزرع مخصوص بالحب والبذر126)، بينما الحرث يكون مع كل عمل، فالعمل في الأرض حرث، ومتاع الدنيا حرث، ويسمى كل من الثواب وإشعال النار والبحث عن الشيء والزوجة حرثاً127). ولعل الذي يرجّح هذا الجانب، هو التوجيه النبوي الكريم الذي جعل للفعل زرعت) خاصية، تتمثل في تعليله- عليه الصلاة والسلام- بأن الزارع هو الله.

وخلاصة القول: أنه إذا كانت دلالة الفعل زرعتُ) تقوم على مدلول شرعي، وهو أن الزارع هو الله تعالى، إذ هو موجد الحَبّ في السنبلة دون سواه، وأنه هو الفاعل الحقيقي لذلك، فإنه يتبادر إلى الأذهان أن استخدام كثير من عامة الناس وخاصتهم للتعبير في مقام الحراثة والزراعة بالفعل زرعتُ) بدلاً من الفعل حرثتُ)، يُعد خلافاً شرعياً، ولحناً لغوياً مغايراً للتعبير الذي يود المزارع الإفصاح عنه. من حيث بذل الجهد، ومن حيث مراقبته حتى يستوي على سوقه128). ومن هنا فإنه لا يبالي في تعبيره عن ذلك بقوله: حرثتُ أو زرعتُ. فأرشده الشارع الحكيم إلى حسن التعبير، وتصوير الحدث حسب المدلول الشرعي، وهو أن فاعل الزراعة هو الله تعالى، وذلك لأن اللفظ والمعنى مرتبطان بالحكم الذي يُراد فهمه وتطبيقه؛ لأن الحكم في غالب أمره لا يخاطب الوجدان، وإنما يخاطب العقل الذي هو مناط التفكير، ودعامة الإقناع، ووسيلة الفهم129).

ومثل هذا النهي في الحديث الشريف السابق الذكر لا تقل: زرعتُ، وقل: حرثتُ)، له قيمته الدلالية في خصوصية المعنى، إذ إن النهي الوارد في الحديث نهي إرشاد وأدب، لا نهي حظر وإيجاب130)؛ لأنه قد ورد نسبة الزرع للآدمي، كما في حديث: [ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً ... ]، إذ فيه جواز نسبة الزرع إلى الآدمي131). كما أنّ خصوصية المعنى جاءت عن طريق الفروق اللغوية لكل من الحرث والزرع، فدلالة الحرث مختصة ببذر الحب من الطعام في الأرض، بينما دلالة الزرع مختصة بالإنبات ومتابعته إلى أن يبلغ الحصاد132). يضاف إلى ذلك ما اكتسبه الفعل زرعتُ) من معنى خاص، جاء عن طريق النهي الوارد في الحديث السابق، والذي يمثل مظهراً من مظاهر خصوصية المعنى133)، المتمثل في إضفاء الدلالة الشرعية عليه، بأن الزارع الحقيقي هو الله تعالى.

7 - صرف: إن من دلالات مادة صرف): التحوّل عن الشيء وتركه، يقال: انصرف عنه: إذا تحوّل عنه وتركه134)، ومنه قوله تعالى: ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم135).

وهذه الدلالة لهذه اللفظة لها إيحاءات غير مرغوبة، جعلتها تحظى بتوجيه الشارع الحكيم لها، وذلك بتغييرها بلفظة أخرى، هي الفعل قضى)، من ذلك ما رُوي عن ابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم- أنهما قالا: "لا يقال: انصرفنا من الصلاة، ولكن قد قُضيت الصلاة"136)؛ وذلك لأن قضاء الشيء يعني: إحكامه وإمضاءه والفراغ منه، فيكون بمعنى الخلْق137). وكل ما أُحكم عمله أو أتم أو أدي أو أوجب أو أعلم أو أُنفذ أو أمضي أو أحكم فقد قُضي. وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث138). وعلى هذا: فإن أصل القضاء: الفراغ من الشيء، ومنه قضاء القاضي، وقضاء الله وقدره، وتقضّي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير