تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد نهى الشارع الحكيم عن استخدام لفظة الكرْم)، وتخصيص دلالتها بـ العنب وشجره، واستبدل: تلك اللفظة لفظة العنب والحبَلة)، من ذلك ما رُوي عن النبي- - أنه قال: [لا تقولوا: الكرْم، ولكن قولوا: العنب والحبَلة] 183). وفي مثل هذا النهي النبوي الكريم تبرز الدلالة الشرعية لـ لفظة الكرْم)، والتي عُرف معناها اللغوي من قبل، إذ ذكر- عليه الصلاة والسلام- أن العلة في ذلك تعود إلى تخصيص الكرْم بقلب المؤمن184)، والرجل المسلم185). ومثل هذا التوجيه النبوي يستلزم إجلاء القيمة الدلالية لهذا التوجيه، وما صاحبه من تخصيص دلالة الكرْم بقلب المؤمن، أو الرجل المسلم. وتبرز تلك القيمة الدلالية من خلال المنظور الإسلامي الذي أرشد إليه الرسول المصطفى، فقد ذكر العلماء أن سبب الكراهة: يعود إلى لفظة الكرْم) كانت العرب تطلقها على العنب وشجره، وعلى الخمر المتّخذة من العنب، كما قال الشاعر: ... والخمر مشتقة المعنى من الكرَم186). وإنما سُميت كرْماً؛ لأنها تحمل على الكرَم والسخاء، فكره الشارع إطلاق هذه اللفظة على العنب وشجره؛ لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمر، وهاجت أنفسهم إليها، فوقعوا فيها أو قاربوا من ذلك، وإنما يستحق هذا الاسم الرجل المسلم، أو قلب المؤمن؛ لأن الكرْم) مشتق من الكرَم، فسُمي قلب المؤمن كرْماً؛ لما فيه من الإيمان والهدى والنور والتقوى187). وهو أولى بهذه الصفات أكثر من العنب والحبَلة، ومن هنا سلبها الرسول- عليه الصلاة والسلام- ذلك الاسم188). وقد ذُكر تعليل آخر لذلك، حيث قيل: أراد أن يقرر ويسدد ما في قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم189)، بطريقة أنيقة ومسلك لطيف. وليس الغرض النهي عن تسمية العنب كرْماً، ولكن الإشارة إلى أن المسلم التقي جدير بألا يُشارك فيما سماه الله به190)؛ لأن الكرَم الحقيقي هو صفة لله- تعالى-، وصفة من آمن به وأسلم لأمره. وهو مصدر يُقام مقام الموصوف، إذ يقال: رجل كرَم، ورجلان كرَم، ورجال كرَم، وامرأة كرَم، فخففت العرب الكرْم، وهم يريدون كرَم شجرة العنب، لما ذُلّل من قطوفه عند الينع، وكثر من خيره في كل حال، وإنه لا شوك فيه يؤذي القاطف، فنهى النبي- - عن تسميته بهذا الاسم؛ لأنه يُعتصر منه المسكر المنهي عن شربه191).

وخلاصة القول: أن للفظة الكرْم) دلالتين: دلالة لغوية تتمثل في العنب وشجره، والخمرة المتخذة من العنب. ودلالة شرعية تتمثل في التوجيه النبوي الكريم بترك استخدام لفظة الكرْم)، والاستبدال بها لفظتي العنب والحبَلة)، وذلك تحاشياً لتسمية شجر العنب كرْماً؛ حتى لا تألفها الأنفس، وتستسيغ ذكرها الأفواه. ومن هنا جاء توظيف دلالتها في الرجل المسلم وقلب المؤمن. وهذا التوجيه يشير إلى أن الرسول- - قد وضع البذور الأولى للغة الفقهاء، عندما كان ينقل بعض الألفاظ العربية من معانيها اللغوية المألوفة، إلى معانٍ ودلالات شرعية، تقوم في معظمها على المجاز، إذ يصح القول: بأن العنب والكرْم من قبيل المجاز المرسل الذي علاقته السببية، إذ وجود العنب سبب في الكرَم. وهذه العلاقة المجازية قد أشار إليها السيوطي نقلاً عن ابن برهان حيث قال: "والأول- أي نقل الأسماء من اللغة إلى الشرع- هو الصحيح، وهو أن رسول الله- - نقلها من اللغة إلى الشرع، ولا تخرج بهذا النقل عن أحد قسمي كلام العرب وهو المجاز"192). ومعنى ذلك أن النهي الوارد في الحديث السابق لا يعني حقيقة النهي عن تسمية العنب كرْماً، وإنما المراد تغليب لفظه على المؤمن، أو المسلم؛ حتى لا يُشارك فيما سماه الله به193)؛ لأن الأصل في الكرْم: الكرَم بفتح الراء، وكل شيء كثُر فقد كرُم، يقال: قوم كرَم أي كرام194). وبهذا يتحقق المجاز المرسل بين الكرْم والكرَم والعنب، إذ كل واحد منهم موصل للآخر. وبهذا يتحقق نقل المعنى في الحديث الشريف من الكرْم بمعنى العنب، إلى الكرْم بمعنى قلب المؤمن، أو الرجل المسلم عن طريق المجاز المرسل من طرائق نقل المعنى195)، التي أكسبت لفظة الكرْم دلالة غلبت عليها خصوصية الدلالة على قلب المؤمن أو الرجل المسلم، وهذا من قبيل تخصيص العام، وهو المسمى عند اللغويين بتضييق المعنى196).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير