تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا كان ذلك هو المعنى السائد لالنسيان)، فإن هناك توجيهاً نبوياً يدعو إلى عدم نسبة النسيان إلى نفس المتكلم، وأنه هو السبب فيه. ولكن ينسب ذلك إلى حدث طارئ، أو سبب عارض، وذلك عن طريق بناء الفعل للمفعول، كما في قوله- عليه الصلاة والسلام-: [بئسما للرجل أن يقول: نسيتُ سورة كيت وكيت، أو نسيتُ آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي] 215). وإنما وجّه- عليه الصلاة والسلام- إلى تحويل الفعل المبني للمعلوم نَسيتُ)، إلى الفعل المبني للمفعول نُسّيتُ) - مع الإبقاء على المعنى الدلالي لتلك اللفظة-، من أجل إضفاء الدلالة الشرعية المستقاة من توجيهه- عليه الصلاة والسلام-، إذ كره نسبة النسيان) إلى نفس المُخبر عن ذلك، وهذا يعود لسببين: أحدهما: أن الله هو الذي أنساه إياه؛ لأنه المقدّر للأشياء كلها. والثاني: أن أصل النسيان): الترك، فكره له أن يقول: تركتُ القرآن، أو قصدتُ إلى نسيانه، وذلك ربما يكون بغير اختياره، إذ تقول: نسّاه الله وأنساه216). كما إن الفعل نسيتُ) في حالة بنائه للمعلوم، له دلالة لغوية تتضمن التساهل والتغافل217)، كما في قوله تعالى: أتتك آياتنا فنسيتها218)، ولهذا ذكر القاضي عياض: أن أولى ما يُتأوّل عليه

الحديث، أن معناه: ذم الحال، لا ذم القول، أي: نُسيتْ الحالة حالة من حفظ القرآن فغفل عنه حتى نسيه219).

وهذه المعاني اللغوي لالنسيان) الدالة على: الترك والتساهل والتغافل، هي موطن التحذير الشرعي، والنهي اللفظي الذي أرشدنا إليه رسولنا- عليه الصلاة والسلام- في الحديث السابق، وأردفه بالتطبيق الفعلي لإيثار البناء للمفعول كما في قوله: "بل هو نُسّي"، وقوله في موطن آخر: "إنما أُنَسَّى لا أنْسى"220) بضم الهمزة وفتح النون وتشديد السين، إذ إن هناك من يرويه من عوام الرواة: أُنسى، بتخفيف السين، وليس بجيّد؛ لأن معناه: يُنسى ذكرُه أو عهده وما شابهه. والأجود: أُنسّى، أي: أُدفع إلى النسيان221).

وخلاصة القول: أن في التوجيه النبوي ببناء الفعل أُنسّى) للمفعول نكتة لغوية، تتجلى معالمها في تناسب الحركات مع حروفها، إذ إن في تشديد حرف السين من أُنسّى) دلالة على كثرة نسيان الإنسان، والذي يعيد البعض أصل اشتقاقه اللغوي إلى النسيان222)؛ نظراً لكثرة نسيانه. وقد جاءت دلالة الكثرة عن طريق التشديد لحرف السين؛ لأن في التشديد زيادة في المعنى، وتأكيداً لا تحتمله الصيغ المخففة، إذ يدل التشديد على تكرير الحدث ومداومته وتكثيره، فيكون أبلغ في المعنى223). وليس الأمر كذلك فحسب، بل إن في بناء الفعل أُنسّى) للمفعول قيمة في وضوح الجملة وإتباعها لما قبلها، وفي ذلك يقول ابن جنّي: "ينبغي أن يُعلم ما أذكره هنا، وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة وبعد الفاعل، كضرب زيد عمراً، فإذا عناهم ذكر المفعول قدّموه على الفاعل ... ثم إنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة، حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغَوا ذكر الفاعل مُظهَراً أو مُضمَراً فقالوا: ضُرِب عمر، فاطّرح ذكرُ الفاعل البتة ... فإذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغَوا حديث الفاعل معها، وبنَوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد ... فإن أُريد ذلك ولم يدل دليل عليه فلا بد من أن يُذكر الفاعل"224). يضاف إلى ذلك: أن في التوجيه النبوي السابق الذكر، إظهاراً لقيمةا لمجاز في الجانب الدلالي؛ لأن في المجاز إثراءً للغة، وتوسيعاً للدلالة225)، ومن هنا ساغ التعبير بالسبب للوصول إلى النهي عن المسبَّب، كأنه يريد أن النهي عن قول: نسيتُ آية كذا وكذا)، ليس للزجر عن هذا اللفظ، بل للزجر عن تعاطي أسباب النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ226).

12 - هرق: تشير كتب اللغة والمعاجم إلى أن قولك: هرقتُ الماء فأنا أهريقه، والماء مُهراق، أي: أنه مصبوب227). وهرّقْ ماءك أي: اصببْ ماءك. وهو عام في كل شيء مثله، كالدمع والمطر والخمر والدم وغيره228). والعرب تقول: هرقتُ الماء وصببته ودفقته وسكبته. وأصل هرقت: أرقت؛ لأن العرب تبدل من الهمزة هاء، ومن الهاء همزة؛ للقرب الذي بينهما؛ لأنهما من أقصى الحلق229).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير