فما أشرتم إليه أثناء ردكم على الأخ الفاضل أبوعبدالرحمن من تفريق بين البنطال الخاص بالإناث وغيره مما جرت العادت بلبسه، فهو كلام وجيه بديع، فإن البنطال (المنتشر) كما أشرتم لم يكن لباس المرأة الغربية وإنما قلدت فيه الرجل، ثم تبعت كثير من الشرقيات الغربيات، وهذا كلام لا أستغربه ولعل المطلع على بعض الصور أو الأفلام الوثائقية قبل نحو قرن يلحظ التغير الذي سرى في لباس النساء الغربيات ولو قدر لك رؤية فلم وثائقي في ذلك لاتاريخ لرأيت الشوارع خالية من النساء إلاّ قليلاً فإذا خرجن فبلباس أشبه بالمفهوم العام للحجاب الإسلامي المعاصر!
وعوداً على بدء فلعلكم -أحسن الله إليكم- تتفقون مع من يقول إن لبس البنطال من قبل الرجال ليس من قبيل التشبه المحرم، ولعلكم تقررون الضوابط التي قررها شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط لتحريم التشبه [فائدة ولأستاذ هيثم بن جواد الحداد بحث مختصر مفيد في ضوابط التشبه الممنوع نشر في البيان العدد 189 ولعلكم اطلعتم عليه].
فيبقى الخلاف في مسألة: هل يلزم من حرم البنطال بدعوى التشبه تحريم لباس أهل شبه القارة الهندية، وقد أجبتم بنفي الإلزام ولي مع ما خطه يراعكم الرائع تساؤلات لعلها تبين وجهة النظر الأخرى:
1 - ألاترون -بُورك فيكم- الأصل أن الناس يلبسون لباس آبائهم وأجدادهم، فلايلزم عليه أن يثبت من وجد أناساً يلبسون ثياباً أن يثبت أن أجدادهم كانوا يلبسون ثياباً قريبة منها، بل ألا ترون أن من زعم بأن تلك الثياب وافدة هو الذي يطالب بالإثبات؟
2 - هب أن لباس سكان الهند والسند جاءهم كما أشرتم من بخارى أو سجستان أو تركمانستان أو غيرها، أفلا يحيل هذا الحل للإشكال على إبهام! فمن أين جاء ذلك اللباس للتركمان؟ ألم يرثوه عن آباء وأجداد غير مسلمين طرأ عليهم الإسلام بعد عهد الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه.
3 - لنقل أن اللباس جاء من أرض الجزيرة، بل لنفرض أنهم يلبسون الثياب التي تصدر من أرضنا، فهل نحن أحدثناه بعد الإسلام أم أصله لباس الآباء والأجداد أُنفاً؟ هل غير أحد من المسلمين ثيابه بعد إسلامه أم لبسوا ما كان يلبسه أبو جهل وأبولهب خلا ما جاء النص بمنعه.
ولعل مما يحسن تنبيه القارئ إليه -ومثل المشاركين لايخفاهم- أنه قد يكون للأقوام أكثر من زي، وأهل بلاد الهند -المراد جل شبه القارة الهندية قبل التقسيمات الحديثة- لهم أكثر من لباس منها "الساريه" -لست متأكداً من كتابتها- الذي يشبه الإزار والرداء، ومنها ما يلبسه أبناء عمومتهم في كشمير وباكستان وهذا ما نشهد قطاع عريض من الهنود عليه، غير أن أهل ما عُرفت بالهند الحاضرة يميلون إلى زخرفته وتطريزه بعض الشي وإن كان السمت العام متشابهاً.
ثم انظر كيف جعل الإمام أحمد لباس أهل السند من زي الأعاجم وهذا ينسحب على لباس أهل السند ومن كان نحوهم من ترك، وقد جاء في ذيل تذكرة الحفاظ عند ذكر ابن طيمان المصري الشافعي الذي مات مقتولاً في حصار الناصر (فرج بن برقوق) لأنه كان يلبس لباس الأعاجم [زي الترك ونحوه] والشاهد من هذا أن لباس أهل الهند بفرض أنه أتاهم من الترك أو غيرهم فالإشكال فيه لايزال قائماً عند الهند وعند من أتاهم منه من الأعاجم.
وأخيراً ربما لم أحسن الإعراب حين قلت: "البنطال ليس من خصائص وشعائر الشعوب"، فلا شك أن بعض أهل البلاد اختصوا بلباس يميزهم، ولكل أهل بلد لباسهم، كما أن بعض أهل الفرق والطوائف والأديان لهم من اللباس ما يميزهم، فما أبرئ نفسي ولا أدافع عن قولي ولكن أبين أن المراد "خصائص وشعائر" مقرونين معطوفين إذ بهذا يحصل ضابط التشبه المحرم الممنوع.
وعليه فليس في قول الإمام أحمد أن كيت وكيت زي العجم أي من هيئتهم فإن الزي حسن الهيئة من حيث أصل وضع اللغة، ولهذا روي أن المصافحة في السلام من زي العجم، وغسل اليد عند الطعام كرهه سفيان لأنه من زي العجم، وكذلك ترجيل الشعر كرهه البعض وعللو بكونه من زي العجم، وكان النخعي يكره أن يشرب في البلابل ويقول هو من زي الأعاجم ودلائل هذا أكثر من أن تذكر.
وعلى كل حال فليس في قول الإمام أحمد ما يبين أنه عد ذلك النعل من شعائرهم فضلاً عن اللباس، وربما كرهه لأمور خارجة عن إطار كراهة لباس الأعاجم فإن الجلد الذي تصنع منه نعال الأعاجم يرد عليه في مذهب أحمد كونه لايطهر بدباغ وميتتهم لاتحلها ذكاة مع عدم التفريق بين المائع والجامد، وربما كان مأخذه أنه من مظاهر الترف والإسراف في ذلك الجيل كما علل البيهقي رحمه الله في قوله: وروينا عن معاوية عن النبي أنه قال: لاتركبوا الخز ولاالنمار، قال: وكأنه كره صلى الله عليه وسلم زي العجم في مركبهم واستحب الاقتصاد في اللباس والمركب، وربما احتمل غير هذا مما لايخافى أمثالكم.
ثم إن ما كرهه الإمام استحسنه غيره عليهم رحمة الله جميعاً، فهذا سعيد بن عامر يسئل عنه فيقول: سنة.
والخلاصة لعل القول بأن التشبه هو سبب تحريم لبس البنطال للرجال محل نظر، أما القول بالتجسيم فيحتاج إلى ضابط وتفصيل يتباين معه الحكم بتباين البنطال وحجم لابسه.
والله أعلم.
¥