ورجّح القرطبي قول سفيان بن عيينة في جواز التحية للكافر، وذكر ممن يرى ذلك: الطبري ونسبه إلى السلف، وابن مسعود وأبو أمامة والحسن البصري والأوزاعي.
6. أما التفريق في التحية بين المسلم (السلام عليكم) وبين غير المسلم (مرحباً أو سواها) فهي مخالفة للأدب القرآني. فقد نصّ الله تعالى على التحية للمسلم فقال: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل: سلام عليكم .. } [سورة الأنعام، الآية 54]. وذكر نفس النص في تحية غير المسلمين {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين .. } بالإضافة للآيات الأخرى المذكورة سابقاً.
7. ومن أعجب الأمور قول بعض المسلمين بعدم جواز رد التحية على غير المسلم بلفظ السلام. مع أن الله تعالى يقول: {وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها .. } [سورة النساء، الآية 86].
وجمهور الفقهاء يوجبون ردّ التحية بأحسن منها أو بمثلها. وقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير هذه الآية: "التحية مصدر حيّاه، إذا قال له حيّاك الله. هذا هو الأصل، ثم صارت التحية اسماً لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل عليه … وجعلت تحية المسلمين السلام، للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان، وأنهم أهل السلم ومحبّو السلامة …"
علم من الآية أن الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما ردها بعينها، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها. فالمجيب مخيّر، وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء، ورد عين التحية لمن دونهم.
وروي عن قتادة وابن زيد: أن جواب التحية بأحسن منها للمسلمين، وردّها بعينها لأهل الكتاب، وقيل للكفّار عامّة. ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنّة. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً، فإن الله يقول: {وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها} [مجمع الزوائد - كتاب الأدب. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير إسحق بن أبي إسرائيل وهو ثقة].
أقول - والكلام للشيخ رشيد رضا - وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين. - راجع سورة النساء من الآية 74 حتى 94 - ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمّنه على نفسه، وكانت العرب تقصد هذا المعنى، والوفاء من أخلاقهم الراسخة. ولذلك عدّ الإمام - الشيخ محمد عبده - ذكر التحية مناسباً للسياق، بكونها من وسائل السلام.
ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوّة إفشاء السلام إلاّ مع المحاربين، لأن من سلّم على أحد فقد أمّنه. فإذا فتك به بعد ذلك كان خائناً ناكثاً للعهد. وكان اليهود يسلّمون على النبي فيرد عليهم السلام، حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السام) أي الموت، فكان النبي يجيبهم بقوله (وعليكم). وسمعت عائشة واحداً منهم يقول له: السام عليكم. فقالت له: وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبيّناً لها أن المسلم لا يكون فاحشاً ولا سبّاباً، وأن الموت علينا وعليهم.
وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنه كان يقول للذّمي: السلام عليك. وعن الشعبي عن أئمة السلف أنه قال لنصراني سلّم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى. فقيل له في ذلك فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: فحيّوا بأحسن منها (للمسلمين) وردّوها (لأهل الكتاب). وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة".
قال ابن القيّم متحدثاً عن ردّ للسلام على الكتابي إذا بدأ هو به: (الذي تقتضيه الأدلّة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام. فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى:} وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها {. فندب إلى الفضل وأوجب العدل. ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه إنما أمر بالاقتصار على قول الرد (وعليكم) بناءً على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيّتهم - وهو قولهم السام عليكم - … فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: السلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحيّة يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه).
رابعاً: نصوص من السنّة المطهّرة:
أ ـ الأحاديث العامَة:
¥