1. وقد كان الصحابة يتعاملون مع الناس وفق هذه النصوص العامة من الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة، ولا يجدون أي حرج في إلقاء السلام، وفي ردّه على اليهود الذين كانوا يقيمون معهم في المدينة المنورة، حتى كان يوم قريظة. ذكر أبو بصرة أن رسول الله قال: (إنّا غادون على يهود، فلا تبدؤوهم بالسلام، فإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم) [رواه أحمد والطبراني في الكبير، وأحد إسنادي أحمد والطبراني رجاله رجال الصحيح. وزاد الطبراني: (فلمّا جئناهم سلّموا علينا فقلنا: وعليكم)، مجمع الزوائد للهيثمي كتاب الأدب]. وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: قال رسول الله: (إني راكب غذاً إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام، فإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم) [جاء في الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد أن هذا الحديث صحيح].
ونقل العسقلاني في فتح الباري رواية البخاري - في الأدب المفرد - والنسائي من حديث أبي بصرة نفسه أن النبي قال: (إني راكب غداً إلى اليهود، فلا تبدؤوهم بالسلام).
وذكر ابن القيّم في زاد المعاد في فصل (هديه في السلام على أهل الكتاب): (صحّ عنه أنه قال: لا تبدؤوهم بالسلام .. ) لكن قد قيل: إن هذا كان في قضية خاصة لمّا ساروا إلى بني قريظة قال: لا تبدؤوهم السلام. فهل هذا حكم عام لأهل الذمة مطلقاً، أو يختصّ بمن كانت حاله بمثل حال أولئك؟ واختار الترجيح أن هذا الحكم عام بناء على حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام .. ) وسيأتي ذكره فيما بعد، لكننا نقلنا هنا قول ابن القيّم لبيان أن بعض السلف كانوا يعتقدون بأن عدم البدء بإلقاء السلام كان في قضية خاصة هي حصار بني قريظة.
2. لكن وردت رواية أخرى في صحيح مسلم. وقد رواها أيضاً أبو داود والترمذي وفيها: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام .. ).
وفي رواية أبي داود، قال سهيل ابن أبي صالح: خرجت مع أبي إلى الشام، فجعلوا يمرّون بصوامع فيها نصارى، فيسلّمون عليهم. فقال أبي: لا تبدؤوهم بالسلام، فإن أبا هريرة حدّثنا عن رسول الله قال: (لا تبدؤوهم بالسلام .. ).
الجمع بين الروايتين: ونلاحظ هنا ما يلي:
أ. أن الرواية الثانية لم تربط منع الابتداء بالسلام بحادثة معيّنة بل تركت الأمر على الإطلاق. فكأنّ سبب المنع هو كونه يهودياً أو نصرانياً، وبغض النظر عن وجود حالة حرب أو هدنة أو ذمة.
فالأخذ بهذه الرواية على ظاهرها، يؤدي إلى إلغاء العمل بالرواية الأولى، التي يعلّل فيها رسول الله النهي عن البدء بالسلام، بوجود حالة الحرب، إذ عند وجود المنع المطلق، لا حاجة للتعليل بظرف طارئ.
بينما لو أخذنا بالرواية الأولى، لما احتجنا إلى إلغاء العمل بالثانية، ولكننا خصّصناه فقط في حالة الحرب.
وهذه الطريقة في الجمع بين الأدلة عن طريق إعمالها كلّها هي طريقة الأصوليين، وقاعدتهم في ذلك أن (إعمال الكلام خير من إهماله).
ب. إذا قيل بأن الرواية الثانية تنسخ الرواية الأولى فالأمر يحتاج إلى توفّر شروط النسخ ومنها إثبات تاريخي يؤكّد أن الثانية قيلت في زمن متأخر عن الأولى. مثل هذا الإثبات غير موجود، أو على الأقلّ لم نطلع نحن عليه، ولكن الثابت في السنّة - كما سيأتي فيما بعد - أن الرسول كان يراسل الملوك حتى وفاته فيلقي السلام أحياناً بشكل مطلق فيقول: سلم أنتم. ويقيّده أحياناً فيقول: والسلام على من اتبع الهدى. هذا بالإضافة إلى أن الرواية الثانية لم تنسخ الأولى بل أكّدتها وزادت عليها.
ت. إن الروايتين تؤكّدان أن المسلمين كانوا يبدؤون بالسلام التزاماً بالنصوص العامّة التي ذكرناها آنفاً من القرآن الكريم والسنّة المطهرة، ثم جاء النهي عن ذلك. والسلام ليس من المسائل التعبّدية غير المعلّلة، بل هو من المسائل التي تقبل التعليل. فإذا جاء النهي معلّلاً بحالة الحرب كان غير مناقض للنصوص العامة بل هو مخصص لها بما لا يناقض أهدافها. أما إذا جاء غير معلّل، فهو مخصص للنصوص العامة بما يناقض أهدافها. وهذا لا يصح إلاّ مع النسخ. والنسخ غير ثابت. فلم يبق أمامنا من سبيل لمنع ادعاء حصول التناقض إلاّ الجمع بين الروايتين الصحيحتين، واعتبار أن منع ابتداء غير المسلمين بالسلام سببه وجود حالة الحرب، وهذا الرأي هو الذي قال به الشيخ رشيد رضا (في تفسير المنار الآية 84
¥